قراءة في كتاب “هدنة لمراقصة الملكة” للشاعر الفلسطيني سلطان القيسي
بقلم: قمر عبد الرحمن | فلسطين
صدر هذا الكتاب عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع و عنوان الكتاب الذي يجعلك تفكر فيه طويلًا، التقاطةٌ ذكيةٌ من الكاتب لذهن القارىء، وهذا العنوان يجعلك تتساءل..ما علاقة الرقص بالهدنة، والهدنة بالرقص؟ الهدنة في العادة لإدخال المساعدات، لإطعام الجياع، لاستراحة المحاربين، لإلهاء المستعمرين، لزفير العشاق، لكن الشاعر جمع كل مقاصد الفرح هذه في رقصة الملكة، وربما ترقص الملكات عند إعلان الهُدَن احتفالًا بوقف القتل ولو مؤقتًا، لكننا لا نراهم!
ومن العنوان إلى لوحة الغلاف المعبرة للروائي السوري نذير الزعبي، الوجه الأمامي للغلاف باللون الأحمر اللافت، وفي الوسط خوذة جندي باللون الأسود تعبر عن الحرب، وأسفلها ببيوتة سوداء اللون أيضًا تعبر عن الرقصة، حيث لا تجوز الرقصة بدون ببيوتة، ولا تجوز الحرب بدون خوذة، وما بين الخوذة والببيوتة كانت الهدنة لمراقصة الملكة! أما الوجه الخلفي للغلاف باللون الأصفر فيه كلمة للكاتب أمير داود، وتوضيح موجز من خلال مطوية صفراء عن الملكة أليسار، ومطوية خضراء تقابلها فيها نبذة مختصرة عن الشاعر سلطان القيسي.
وما يثير الانتباه في الغلاف كلمة “تجربة” المظللة باللون الأصفر في أعلى الغلاف الأمامي، رغم تنوع القصائد، وجمال التصوير فيها، وفكرتها المُحكَمة، إلا أن تواضع الشاعر دفعه لاعتبار الإصدار الشعري الثالث له “تجربة”!
“هدنة لمراقصة الملكة” 128 صفحة مقسمة لثلاث عناوين رئيسية (رحلة الملكة، وشرق أوسطيون في المترو، وشؤون خاصة في المحطة العامة)
يستهل الشاعر كتابه بإهداءٍ مميز (إلى الملكات: أمي، وحبيبتي، وأخواتي، وابنتي أليسار بطبيعة الحال) وهذا يعبر عن رفاهة الحس لدى الشاعر، وتشعر من البداية أن الكتاب له علاقة بالمرأة ومكانتها عند الرجل، ومكانتها في القصيدة أيضًا، لكن سرعان ما تأخذ القصائد منحنىً آخر منتصف الكتاب، كما يحتوي على رسومات مميزة للفنانة أشرقت أبو رداحة موزعة بين الأقسام الثلاثة مع عبارات مدهشة! وابتدأ الكتاب ب”رحلة الملكة”..
يغلب على القصائد طابع الحبّ والتماهي في وصف العاشق للملكة مثل: (نمشي ونعد نجوم الله على جسدك في الليل.. نزحف نحو الحتف خفافًا وثقالًا..) (تلك المرأة التي كلما فردت شعرها.. ارتبكت الجيوش على أطراف الخرائط) (أحبكِ، ليس من أجلك، إنما من أجلي فيكِ) (أبحث عنكِ في الأغاني القديمة… في معارك الشعر العمودي الأخيرة مع شعر التفعيلة، قبل أن تفترسهما قصيدة نثرٍ جديرة) (أما أنا فأحبك بحماسةٍ لا تهدأ) (كان قلبي خائفًا، متلحفًا بفراء ذكرى، كلما جاءت يصيح ليستريح: أنا أحبكِ!)
أما في وصف الملكة للعاشق وعذابات الحب المتكررة يقول: (لم يكن صوتكَ هينًا، وأنت تطرق رأسي من الداخل وتصرخ) (أحمل حبكَ في بطني، وألده وأربيه وأقتله) (بالصداع أكتب اسمكَ طوال النهار؛ لتقلق) (أحببتك حتى انتفخ بطني) (أحبكَ والحياة تقسو، والمدينة تتسع)
…
ينتقل الشاعر في القسم الثاني “شرق أوسطيون في المترو” لوصف حالة الشعور القاسية بين الرجل والمرأة وحالة الانتظار المأساوية اللانهائية في الشرق الأوسط بقصيدة “مقام شرق أوسطي” حيث يقول: (في الشرق.. حيث الصبايا بقاماتهن المتوسطة يحاولن التقاط أحلامهن.. ينتظرن الحب فالمبادرة منقصة.. وينتظرن دورهن بالحديث.. وينتظرن أن ينتهي الآخرون من تناول الطعام.. وينتظرن الدورة الشهرية.. وينتظرن العريس وينتظرن الولد)
مما جعلني أتساءل ما معنى الانتظار هنا؟! وما الفائدة منه؟! وهل الأشياء التي ننتظرها تساوي قيمة الانتظار أم أنّ الانتظار عبثيٌّ ليمضي الوقت والعمر معًا ليس إلّا؟!
وفي قصيدة “فانتازيا الموت” يقول الشاعر: (ليس شعرًا ما يكتب عن الحرب في الحرب، فانتازيا الموت أكبر من أن تحصر في قصيدة) كنا قديمًا مع الشاعر في هذه النظرية لكن الآن اختلف الأمر تمامًا، وصارت الكتابة والشعر واجبًا يوميًا علينا تأديته بأمانة في الحرب الجارية رغم الألم المكعب الذي نشعر به عندما نسمع ونشاهد الموت يلتهم كل شيء هناك في غزة، ورغم تسمّر أقلامنا بداية السطر، حتى تنتهي المُقل من البكاء على ما حدث وما يحدث كل يوم! فلا أحد سيعبر عنّا أكثر منّا، ونحن أحق بأن نروي روايتنا في حياتنا القليلة، وفي موتنا الكثير!
أما عن قصيدة “مجد الهامش” فيها وجعٌ عميقٌ حيث يقول: (أبحث عن اسمي بين هذه البنادق المشهرة في الوجوه والابتسامات والبيوت.. أبحث عن وجهي في الصور التذكارية واللغات القديمة.. وفي خطابات السادة وأغاني العامة) اسمنا الذي كان ملك أفواهِنا يومًا، صاروا يكتبوه في الحرب على أطراف الصغار والكبار حتى يعرفونهم عند الموت، ثم كتبوه على جباهِهم خوفًا من تطاير الأطراف من القصف أو سحقها تحت الأنقاض! لكن السؤال هنا.. تُرى أين سيكتبوه إن انفجر الجسد لأشلاء صغيرة في الهواء؟! حتمًا سيطير الاسم نحو الأعلى، فلا حاجة لأحد بمعرفته بعدما تعرفه السماء!
أما عن شعور الرجل العربي في الغربة فيصفه من خلال نص “ستوكهولم” عاصمة السويد وأكبر مدنها، يصفها بطريقةٍ متفردة رغم بساطتها! (إنها ستوكهولم، كل شيء مسالم، وهادىء، بارد، وصديق للبيئة، إلا نحن الذين حملنا دمنا الحامي في العروق… ستوكهولم، كل شيء مسالم، وهادىء، ما عدا السؤال: هل كل هذا البرد لأننا اكتفينا بقمصان خفيفة، إذ حجزت الذكريات القاسية مساحات واسعة في حقائبنا؟ أم لأننا تركنا باب الوطن مفتوحًا وراءنا؟!
وأجيب الشاعر.. بأننا لا يمكن أن نكون مسالمين وهادئين، ووطننا مجروحٌ بعمق ذكرياته التي صنعها أبناؤه!
وفي “قصيدة العرب” يصفنا من صميم عاداتنا العربية، رغم الألم الذي يرافق الوصف، حيث يقول:
(نعم، نحن العرب..
بلادنا مفتوحة كمضافاتنا،
وضيوفنا لا يشربون القهوة،
يشربون دماءنا،
ويفلّون حسن نيتنا بحمر النوايا)
ولم ينسَ الشاعر أن يصف علاقتنا بالعابرين في حياتنا، وكيف ننسى شكل الأشخاص وأسمائهم أحيانًا، ونتذكر أقوالهم وعباراتهم الرنانة بالذاكرة لأنها أصابت وجعًا يسكننا، حيث أنهى نص “عبارات عابرة” ب (لم أقابل أيًّا منهم لاحقًا، لكنني ظللت أقابل عباراتهم كل يوم) وهذا ما يحدث فعلًا!
ويصف العدو في قصيدة “بلغةٍ سامية نواجه المستقبل” حيث يقول:(ضحايا الهولوكوست ماتوا، ومازالت المراجل ماثلة.. لا أحد يعرف لماذا ينتقم كفار قريش منّا؟)
…
وفي القسم الثالث والأخير الذي حمل عنوان “شؤون خاصة في المحطة العامة” كان الشاعر بسيطًا وعميقًا في عشقه بنص “سيرة ذاتية للعاشق” (لا يمكنني أن أصف أنين الحوت وهو يغرق في دمي إلا لك.. أحبك ليس لأجلك، إنما من أجلي فيكِ!)
ولا تعليق على غرور الشاعر في نص “مراجل القلق” (النساء اللواتي عشن معي قصص حب وتزوجن غيري، محظوظات جدًّا!) (تبًا لهن وهن يقعن في حب الحراس، الذين وزعتهم على الجبال!) ذكرني المقطع الأخير بالمثل الشعبي “حاميها حراميها” ويبدو أن الشاعر لم يكن يعلم حينها أنّ الحب يكره الحراس؛ خوفًا من التورط بهم!
كما أن الشاعر تطرق في الكتاب لعلاقتنا بأجهزتنا المتنقلة حيث يصفنا الشاعر في قصيدة “الأشياء” ويقول: (سوف تسقط أشياؤك كلها..) ستسقط كل الذكريات والمنجزات والمسرات والملاحظات (ستسقط كلها على الأرض.. إذا سقط من يدك الموبايل) ولن ندرك ذلك السقوط طبعًا إلا عند الفقد الحقيقي لما كنا نملكه دفعةً واحدة!
وعن شعور الوحدة وارتباطها المكثف بِنيّة وقرار الكتابة التي يشعر بها الشاعر أحيانًا وربما غالبًا، أبدع في وصفها وعلاجها في قصيدة “حتى ينتهي الكلام” وقال:
(يا للحزن، كم هم متعلقون بالسوشيال ميديا، مقهى الغرباء الكبير!) حيث كانت قصيدة ومصطلح “مقهى الغرباء الكبير” أنسب ما قرأته حتى الآن عن علاقتنا بمواقع التواصل الاجتماعي، وأوافق الشاعر فيما كتبه في بداية القصيدة.. فعلًا (الغرباء صنائع الوحدة)
ويصف الشاعر الحب بمفهومه الواسع المتمدد الذي نعجز عن فهمه إلا بعد فوات العمر والزمن، حيث يقول: (الحب الذي يوقظنا في الليل.. الذي يتفقد الشبابيك والأبواب… إلخ) في إشارةٍ لدور الأب الذي يحمل الحب على كتفيه منذ لحظة وجودنا في هذه الحياة، ولا يتضح لنا ذلك المعنى الشاسع إلا من خلال تصرفاتنا المستنسخة عن تصرفات آبائنا بعد رحيلهم!
ويكمل سلطان..
(الحب الذي يعطر البيت.. ويصب شرابنا، ويعيد تسخين الطعام، ويرتب ملابسنا التي نرميها على الكنب.. إلخ) في إشارةٍ واضحةٍ لدور الأم في حياتنا، والتي تمتلك نوبل الحب دون منازع! (إنه الأب ذو الشاربين، والصوت الأجش، واليد الحانية.. إنه الحضن الكبير الذي نتعارك عليه دائمًا.. مع أنه يتسع لي، ولكِ، وللناس كلهم أيضًا… حين كلنا سواسية، وعراة، كلثةٍ بلا أسنان..!) وبهذا المعنى الختامي أرجع معنى الحب لنواته الأصيلة، بصورة طفلٍ يستطيع أن يحارب العالم في ظل والديه! وللتنويه.. القصيدة بصوت الشاعر عبر المواقع أبلغ من مجرد قراءتها!
وينتهي هذا الجمال المكثف بنصوص “عدّاءٌ في حلم” من يافا المحتلة موطن الشاعر الأول، على إثر زيارته لها في فبراير عام 2014. وختامًا أقول.. سنبقى يا سلطان الشعر عدائين في أحلامنا، حتى نستيقط على صباح الوطن المحرر.. يقينًا بالله.. يقينًا بالله وحده.