انصحْ ولا تفضحْ حتى تهواك القلوب

د. عادل المراغي | القاهرة 

النصيحة: هى كلمة جامعة لإرادة الخير وحيازته للمنصوح، وأصلها بالاشتقاق اللغوي: من نصحت الثوب إذا خطته، أو من نصحت العسل إذا صفيته، فالمقصود بها: رتق العيوب، وسد الخلل، والتصفية ونبذ ما لا يليق بالشخص وتحذيره من المخالفة، وزجره عن سلوك مشين، وجذبه إلى مصلحته وما فيه نفعه، ليخلص من الشرور والآثام، وليبعد عنه آثارها العظام، وهذا الأمر هو الذي ينبغي أن يتنبه له الشخص منا.
والنصح فيه إخلاص وأمانة ومحبة للمنصوح وإرادة الخير له؛ فإنما المسلم هو الذي يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، فإن هداه الله إلى الطاعة وإن وفقه إلى الخير، أحب أن يشاركه سائر الناس في تلك الطاعات وفي المسارعة والمسابقة إلى الخيرات.
وقد تنقلب النصيحة إلى فضيحة عندما يجهر بها في المجالس، وتشاع في المجامع، وتعلن بالصوت المرتفع، وتجابه بالأسلوب السيئ البغيض المنفر، فليست حينئذ تؤتي ثمارها.
وقد وضح لنا الفضيل بن عياض الفرق فيقول: (إن المؤمن يستر وينصح، وإن المنافق والفاجر يهتك ويعير).
وبعض الناس بحجة النصيحة يقعون في الفضيحة، وبحجة إحقاق الحق يقعون في عين الباطل، فتجد بعضهم كأنما يذيع نشرة أخبار وتسير الفضيحة كل مسار وتطير في الآفاق كل مطار،
كما ميز الإمامُ الشافعيُّ – رحمه الله بين النصيحة والفضيحة فقال -: (“مَن وَعَظ أخاه سِرًّا، فقد نَصَحَهُ وزانَهُ، ومن وَعَظَهُ علانيةً، فقد فَضَحَهُ وشانَهُ”
وأنشد في هذا المعنى رحمه الله-

تَغَمَّدْني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي
وجنِّبني النَّصيحةَ في الجَمَاعَهْ
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ
منَ التَّوبيخِ، لا أَرْضَى استِمَاعَهْ
وَإنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي
فَلاَ تَجْزَعْ إذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَهْ

و الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب مَنْ ينصح له؛ وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها.
وإذا تحولت النصيحة إلى الفضيحة لم تقبل النصيحة،
لأن النفوس تصد عما يكون فيه إظهار لعيبها، وإشهار لخطئها، والنفوس جبلت على العناد وعلى كره من أساء إليها وجرح شعورها فإذا نصحت شخصاً في ملأ من الناس أو أظهرت عيبه من ورائه فغالب الأحوال أنه لا يرتدع، بل يصر ويمضي على معصيته، ويبقى على مخالفته، ثم قد يلتمس لها تأويلاً، وقد يبحث لها عن دليل؛ وما ذلك إلا بسبب ما وقع في نفسه من أثر سوء فعلك ومن أثر فضحك له.

ومن الآثار المترتبة على تحول النصيحة إلى الفضيحة تغير القلوب وزرع الشحناء والبغضاء، وشيوع سوء الظن والريبة بين الناس:
فإن الذي فضحته لا شك أنه في الغالب يضمر لك في قلبه كرهاً، ويحمل لك في نفسه شراً، والآخرون الذين سمعوا تغيرت قلوبهم، وزادت ريبتهم، وتحقق تخوفهم وحذرهم، فيحصل من وراء ذلك ما لا يليق بأمة الإسلام من إساءة الظن، وتتبع العثرات، وترقب المحاذير والمعايب، وهذا كله فساد لأصل المودة والأخوة الإيمانية الواردة في قوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) وهذا يبعث على تغير القلوب.
وفي حديث معاوية رضي الله عنه الذي رواه أبو داود وابن حبان بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنك إن تتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أو كدت تفسدهم)، أي: إنك تعلمهم كيف يسيئون الظن بغيرهم، وتعلمهم كيف يجترئون على حرمات إخوانهم، وتعلمهم كيف تنصرف ألسنتهم بالغيبة من أثر هذا الفعل، وكم في إفساد القلوب وإفساد النوايا والطوايا بين أهل الإسلام وأهل الإيمان من آثار وخيمة وعواقب.
والغرض من بذلُ النصيحة, رغبة في الإصـلاح والتقويم, لا “الإسقاط التحطيم! كما أن الغرض منها النقد لا النقص .

ومن الناسِ من يظهر النصح ويبديه, فيظهرُ الأمر في قالبِ النصح والإشفاق, وفي باطنه التعييرُ والأذى, مراده غرضٌ فاسد, وهوىً كاسد, كحالِ أهل النفاق الذين اتخذوا مسجدًا إضرارًا للمؤمنين وموالاة للمحاربين لله ورسوله.
وينبغي للناصح: أن ينزل الناس منازلهم, فالنصيحة للعالِم تختلف عن غيره, وكذا السلطان, وفي الحديث الذي رواه أحمد وغيره: “أَوَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- يَقُولُ: “مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلاَ يُبْدِ لَهُ عَلاَنِيَةً وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِلاَّ كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ”
فليست النصيحة إليه ببث العيوب و المثالب أمام العامة، أو من على رؤوس المنابر

وحتي تسلم الصدور ويسود الود بين الناس يجب أن ننصح المحيطين بنا من دون أن نفضحهم أو نجرح مشاعرهم، أو نهينهم، فالمسلم في دعوته إلى الخير وإلى مكارم الأخلاق يلتزم بما قاله رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه: «الدين النصيحة»، وعندما سأله بعض صحابته الكرام: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)رواه البخاري

و عليك أن تعلم أن الذي ينصحك هو الذي يريد لك الخير و يحبك ويكن لك الاحترام ويخاف على مظهرك أمام الجميع، أما الذي يشهر لك بأخطائك أمام الجميع فهو يكن لك في قلبه الكره والبغض والحسد والغل وعليك توخي الحذر منه فهو ممن قال الله فيهم (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر)
وفي هذا المعني روى ابن أبي الشيخ في (التوبيخ والتنبيه) عن أعرابي أنه قال: إذا ثبتت الأصول في القلوب نطقت الألسن بالفروع، فمن نطق بقبح فإنما استمده من قبح ما في قلبه، ومن نطق بفحش فإنما ذلك استمداد من قلبه)

ومما يدل علي أن النصيحة الرقيقة والكلام اللين له فعل السحر في القلوب ما ورد أن كعب ابن زهير الشاعر لما مدح النبي صلى الله عليه وسلم وشحه ببردته وهى أول برده في تاريخ الشعراء،وذلك لأن النفوس جبلت علي حب من نصحها ومدحها وأثني عليها وأحسن إليها والإحسان بالقول لا يقل عن الإحسان بالفعل.
أحـسن إلـى الناس تستعبد قلوبهم
فـطالما اسـتعبدَ الإنـسان إحسان
فرب نصيحة في ثوب فضيحة ،ولقد كان من هدي النبي صلى الله عليه أنه لم يذكر شخصا في نصيحته بل كان يقول (ما بال أقوام يفعلون كذا)
فالنصحية تدعو إلي الود وتسوق الحب إلى القلوب الجرز بينما الفضيحة تهتك الاستار وتورث البغضاء وتطفئ جذوة الحب وفي التلميح ما يغني عن التصريح،ورب إشارة أبلغ من ألف عبارة،فالنصيحة عند أهل النصيحة تكون تلميحا لا تصريحا وتصحيحا لا تجريحا،و الحر تكفيه الإشارة،وكل لبيب بالاشارة يفهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى