ثقافة القبيلة

جميل السلحوت | فلسطين

            وإمعانا في التّربية العشائريّة والقبليّة التي تطمس الفرد لصالح العشيرة والقبيلة، بل تجيّر انجازاتها إن كانت لها انجازات لشيخ القبيلة، فإنّه لا قيمة للفرد إلا بمقدار ولائه لشيخ القبيلة الملهم و”المعصوم عن الخطأ” والعياذ بالله! ويكفي الأفراد أن ينالوا “شرف الانتماء” للقبيلة والولاء لشيخها، وهذا ليس تراثا أصيلا في ثقافتنا العربيّة، بل هو دخيل وافراز لمراحل الاستبداد التي مرّت بها الشّعوب، ومثال على ذلك في زمن جاهليّة ما قبل الاسلام، عنترة بن شدّاد العبسي،  فقد عومل كما العبيد لأنّه كان أسود البشرة كلون والدته الأَمَة السّوداء، ولم يشفع له أنّ والده سيّد القبيلة، وعندما أثبت نفسه بفروسيّته وبطولاته الخارقة، أقرّوا بسيادته، وفي زمن الاسلام يقول تعالى :”ومن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره” وهذا يعني أنّ المرء مقرون بعمله، يثاب أو يعاقب عليه، ولا شفاعة لآبائه وأجداده له، ولاحقا كان زياد بن أبيه أحد قادة الجيوش الاسلاميّة، مع أنّه ابن امرأة بدون زواج، أي مجهول النّسب، ولم يعبه ذلك. وقصّة الخليفة الثّاني عمر بن الخطاب عندما اقتصّ من ابن عمرو بن العاص واليه على مصر لمّا لطم أحد الأقباط؛ لأنّه تقدم عليه في سباق للخيول، واشتكاه لعمر قصّة معروفة، حيث أحضر عمر اللاطم وقال للملطوم:”اضرب ابن الأكرمين” قصّة معروفة ومدونة في أمّهات الكتب.

      أمّا في عصرنا هذا فنحن في جاهليّة لم تشهدها العصور التي سادت فيها الأمّة، فعدنا إلى عقليّة قبليّة عمياء لم تورثنا سوى الهزائم، ولم يعد للإبداع الفرديّ فيها قيمة، ولنأخذ بعض الأمثلة، ففي أواخر سبعينات القرن الماضي، وعند تأسيس روابط القرى، في محاولة من الاحتلال لخلق قيادات بديلة في الأراضي المحتلّة، لم يتورع قائد هذه الرّوابط من أن يهاجم القائد الفلسطينيّ البارز أمير الشهداء خليل الوزير”أبو جهاد” من على شاشة التّلفزة بتساؤله الوقح: “من هو ابن الحمّمجي هذا؟” وفي ذلك إشارة الى أنّ عائلة الوزير كانت تملك حمّاما تراثيّا في مدينة الّلد التي شرّدوا منها عام النّكبة.

            وذات يوم تفاخر -أمامي بوجود عدد من الأصقاء-أحد كبار الصحفيّين المقدسيّين الذي رتّب له أحد القادة العرب لقاء مع الرّئيس الأمريكيّ رونالد ريغان، فتجاهل الصّحفي دور القائد العربيّ وقال في لقاء خاصّ:” لم يستطع ريغان أن يضع اسمي على قائمة الانتظار كبقيّة الصّحفيين، ووافق على لقائي فور رؤيته لاسمي؛ لأنّه يعلم أنّ اسم عائلتي يشرّفه ويشرّف عائلته”!

        وذات العقليّة هي التي أفرزت قرارات بضرورة تسليم أبناء عائلات بعينها مناصب رفيعة ذات مداخيل عالية؛ كي يبقوا في مدينتهم، وكأنّ الصمود في أرض الوطن يحتاج إلى رشوة! وإمعانا في ترسيخ الثّقافة العائليّة والعشائريّة، فإن الصّدق ومصداقيّة الفرد يغيّبان، فذات يوم وبينما كان أحد المبدعين يدلي بشهادته عن تجربته الإبداعيّة، وتطرّق الى أنّه ولد من أبوين أمّيين، فما كان من أحدهم إلا أن عقب على ذلك فورا وبصوت مسموع قائلا:”مسكين”! وكأن أمّيّة والديه عيب يلحق به، وبذلك فهو مسكين يستحقّ الشّفقة!

      وإيغالا في ثقافة ترسيخ العائليّة والعشائريّة فإنّ مناصب رفيعة يتقلّدها أشخاص أولى مؤهّلاتهم أنّهم ينحدرون من عائلات اكتسبت شهرة في غفلة من التّاريخ، سواء بابداعات إيجابيّة من فرد أو أكثر في مرحلة ما، أو بتذيّل مهين لمن سيطروا على البلاد من أغراب محتلّين. أمّا من تعلّموا وأبدعوا وناضلوا وضحّوا ويتحلّون بكفاءات ذاتيّة عالية من أبناء العامّة، فلا أحد يلتفت إليهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى