أدب

وصيتي

في لحظاتٍ معيّنة، لا تجدُ إلّا الكتابة ملجأً تستظلُّ به

د. إياس الخطيب| موسكو

            أعلمُ أنَّ الكثيرين لايحبّذونَ قراءةَ النصوص الأدبية الطّويلة، ويتجاوزونها؛ لكنّك في لحظاتٍ معيّنة، لاتجدُ إلّا الكتابة ملجأً تستظلُّ به؛ فيطولُ الكلام؛ ولهذا فاعذروني مسبقاً على الإطالة التي لم يكن منها مفر!

وأبدأ…

     ما يعجبني في الشّعراء، هو اندفاعُهم وانطلاقتهم.. عندما يرى شاعرٌ ما شارعاً مضاءاً، أو شجرة عارية تساقطَتْ آخرُ ورقةٍ صفراء منها، أو فتاة حسناءَ تزهو بثوبها الذي ترتديه للمرة الأولى، فإنّه يستطيعُ اقتناصَ اللحظة، وخطَّ قصيدةٍ وهو يقفُ في مكانه يتأمّل.. يرتجل الشعر، وينطلق.. يطلق العنان للحروف، للكلمات، لبيوت الشعر كي تصطفّ وتصفَ الموقف..
الشّعراء يعرفون كيف يحبّون، داخل كلِّ واحدٍ منهم يقبعُ زيرُ نساءٍ جاهزٌ للإنطلاق في أية لحظة، هم يتغنّونَ بأنفسهم، ويصفون أنفسَهم بأنّهم كالسّيف الذي يجب أن يبقى مشحوذاً، وجاهزاً للإنعتاقِ من غمده في أي وقت.. ولأنّ الحبّ يحتاج للإنطلاق والإنعتاق بآن.. فإنهم الأقدر والأجدر بهذه الكلمة.. الحب..
ما أكرهه بنا نحن -القاصّين والرّوائيين- بأنّنا على العكس من ذلك تماماً، – ولكي لا أثيرَ حفيظة أحدٍ من القاصّين أو الرّوائيين الذين يعتبرون أنفسهم بأنّهم ليسوا كذلك – فسأقول بأنّي أتحدّثُ عن نفسي على الأقل، ومن منطلق رؤيتي لا أكثر.. فنحن نتصفُ بالهدوء أكثر من الشّعراء، الأشياء التي نراها عادة ونلاحظها نخضعها إلى مرحلة من التخمير، والتمحيص، والتفكير الطويل، قبل أن نقدمَ على الكتابة..نتعذّبُ ونحن نعجنُ القصَّة في رأسنا، نعيشُ شخوصاً كثيرة بكل تفاصيلها في مخيّلتنا، نعيش حيواتٍ وأحداثاً وأزمنة قبل أن نقدم على خطِّ سطرٍ واحدّ..
يعلّمنا ذلك الصّبرَ ربّما، لكنّه يفقدُنا الحماسة، نتعلّم الحكمة، لكننا ننسى في لحظة بأنّ المغامرة في لحظات معيّنة لها متعة لا تضاهيها متعة، نصبحُ ربّما أكثرَ اتزاناً، لكنّنا نخنقُ ذلك الطّفلَ القابعَ في داخلنا والذي يريد بين الفينة والأخرى القفز من مكانه والتحليق عالياً، وكأنّنا نقوم بوأدِه..
ربّما يتساءلُ أحدُكم ما علاقة كل ذلك بوصيةٍ أنا بصددِ خطِّ سُطورها الآن.. أقولُها لكم، بأنَّ السّطورَ القادمة ستفصح..
تساءلْتُ بيني وبين نفسي مرّةً عن سبب كتابة ماركيز لوصيّته وعن سبب توقيتها، لكنّي لم أنتهِ من تساؤلي، حتى أجبْتُ نفسي بنفسي..
رجلٌ وجد نفسَه وقد هرمَ بين ليلةٍ وضحاها، أصابَهُ مرضٌ في أيّامه الأخيرة، علمَ أنّه على فراش الموت، فأحبّ أن يتركَ شيئاً عبقرياً إضافياً ككلّ ما كتب، نضحَ من تجربته الكبيرة، والخبرة التي استقاها من الحياة، وكتب وصيّته الرّائعة تلك، وماتَ بعدها.. وأنا على ثقة بأنَّه فارقَ الحياة راضياً، مرتاحاً..
ما تساءلته عندما صعدْتُ الطَّائرة في المرّة الأخيرة، لماذا نظنُّ دائماً بأننا سنعمّر، بأننا سنعيشُ طويلاً، ننتظر اللحظة الأخيرة كي نكتبَ وصايانا.. من منّا يعلم لحظته الأخيرة؟!! في الحقيقة، ما يحملنا في لحظةٍ على كتابة وصيَّة، ليس ذلك في حقيقةِ الأمر.. بل هي لحظة موتٍ نعيشها.. نعم، ومن قال بأنَّ الموتَ لا يُعاش!! عندما تموتُ أشياءٌ فيكَ أو من حولك، عندما تفقدُ أشياءً أو أشخاصاً، فإنَّ ذلك يوقف لبرهةٍ عقاربَ الزّمن، وتصبحُ عقاربُ السّاعة التي تدور بعد ذلك لا تحمل قيمةً أو معنى، فما يصنع حياتنا هي تلك التفاصيل، تفاصيل الأشخاص والأشياء التي يجب أن نوليها اهتمامَها، وإلّا سنفقدُها.. فما تعطيه، سيعطيك، وما تجودُ به اليوم، سيعود إليكَ ربّما مضاعفاً ولو بعد حين، الحبُّ يولّدُ الحب، والعكس من ذلك صحيح.. المشكلة الحقيقة التي تتعربشُ على حياتنا.. أو حياة الكثيرين، هي أنّنا لا نشعرُ بقيمة الأشياء إلّا عند فقدها.. ونبدأ بعدها التساؤلَ بيننا وبينَ أنفسنا، لماذا فقدنا؟ فقدنا ببساطةٍ لأنّنا نسينا أن نفعل، في اللحظة التي كان يجبُ بها علينا أن نفعل، ونسينا أن نعطي، في اللحظة التي كان ينتظر الآخرُ منّا العطاء، ونسينا أن نصنعَ لحظة الفرح، في الوقتِ الّذي كان فيه الفرحُ عصفوراً يحلّقُ أمامَ أعيننا، فأغفلْناه، وأشحْنا في حينها النّظر.. باختصار، استيقظنا، وفتحنا أعيننا، عندما قررَ الآخرُ أن يغمضَ عينيه ويمضي في سبيله، قرَّرْنا أن نفتحَ صفحة جديدة، عندما قرَّرَ الآخرُ أن يغلقَ الكتاب، باختصار.. لم نقتنص اللّحظة في لحظتها.. أرجأنا أشياءً للمستقبل، وكأننا نعلمُ ما سيحدث غداً.. فأضعنا الحاضر!! ولهذا بدأتُ كتابتي برفع القبَّعة للشّعراء، الّذين يتقنونَ فنَّ اقتناص اللّحظة، والاهتمام بالتفاصيل.. ولهذا أراني أمتشقُ قلمي، لأكتب:
على الرَّغم من أنّي لم أعشْ إلى الآنَ مائة سنةٍ، وربّما لن أعيشَها، فحتى الخمسون لم تأتِ بعد، ولا الأربعون، ولا حتى الثلاثون التي أضحت قريبة، لكنّك تقرّر في لحظة أن تخطّ وصَّيتك، أو ما يشبهُ الوصيّة، فأمّهاتُنا يرددْنَ كثيراً على مسامعِنا جملة: (ما حدا حاطط على راسو خيمة)، بمعنى أنّنا معرَّضونَ للموت في أية لحظة، وكلامُ الكبارِ يجب أن يؤخذَ دائماً بالحسبان، ألم نتعلّم منذ الصّغر أن نصغي السّمعَ لمن هم أكبر منّا، ونستقي؟ نعم.. ذلك ما تعلّمْناه.. وفي لحظاتِ الّنقاء الخالصة، تعلمُ علمَ اليقين، بأنّ الموتَ الحقيقي، ليس عندما تفارقُ الرُّوحُ الجسد.. بل هذا آخر شيء سوف تفكر فيه، بل لن تعره بعدَ الآن اهتماماً.. لأنَّك ستكتشفُ في لحظةٍ بأنَّ الموتَ، هو عندما تموتُ الأشياءُ فينا، والموتُ الأمرُّ، هو عندما نكون نحن المذنبين في موتِ وفقدان الكثير من الأشياء والأشخاص الذين كانوا بالأمس فرحَ الحياة بالنِّسبة لنا.. هنا فقط، يبتلعُكَ الموت.. كحوتٍ ضخم فتحَ فاهَه، ضمَّكَ بينَ أنيابه المدبّبةِ كسيوفٍ ورماحٍ حادّةٍ.. مصقولةٍ، وبدأ بالتهامك وقضمِك من كلِّ مكان في جسدِك، ولأنَّكَ تشعرُ بأنكَ المذنب، فإنك تستهوي الموت، لأنَّه سيكونُ الخلاص، في وقتٍ ستكونُ فيه الحياة هي العذاب، عندها تتشهى الموت، لا لشيءٍ، فقط كي تستريح.. فالأشياء الحلوة ماتت، وبعد ذلك لا حاجة لحياة، لا تشبه في شيء الحياة، فيتراءى لك الموت على هيئة قدّيسٍ مخلّص، تسعى بكل ما أوتيت من قوّةٍ كي تصافحَه، وتذهبان معاً..
ولكي تبعدَ عنكَ الموت، وكي لا تكون مضطرّاً لمواجهته أو التفكيرَ به، ولكي لا تجعلَه يقتربُ منك قيد أنملة.. تماماً كما قال نزار قباني يوماً: عندما أكون أنا وحبيبتي في فراشٍ واحد، لن أسمحَ للموت أن يقتربَ منّي، فسريرُ الحب لا يتسعُ أبداً لثلاثة أشخاص..
وكي لا تضيع الحب، والذي تكتشف في لحظة معينة، أنَّه الأقدس والأهم والأجمل في حياتنا، فعليكَ أن تضعه دائماً في سلّم الأولويّات، ولهذا قالوا بأنّ الحبَّ أعظم موجة يصل إليها الإنسان، ووضعوه في رأس الهَرَم..
عرفوا الحياة تماماً، وخَبِروها، أولئكَ الّذين فعلوا ذلك..
ستعلّمك الحياة، بأنّها تعطيكَ فرصاً في كلِّ شيء، في العمل، في الدّراسة، في كلِّ شيء، لكن في الحب، عليك فقط أن لا تضيعَ الفرصة.. إذا أتتكَ رياح الحب، فاغتنمها، عانق تلك الرّياح ولا تفلتها، أمسكها في يديك، في قلبك، في عقلك، حاربْ من أجلها ولا تسمح لها أن تطير وتحلّق بعيداً، فالذي يطير قد لا يعود، والذاهب قد لا يرجِع.. ولكي لا تدخل مشكلة ال (قد) هذه إلى حياتِكَ، عليك فقط أن تتعلّمَ كيف تحب.. كيف تتمسّكُ بمن تحب، أن تعطي دون انتظار مقابل، عندها فقط، وإن حانت ساعة الفراق لشيءّ لم تكن تحسِبُ له حساباً، فعلى الأقل عندها لن تندم.. لن تشعر بأنّ الموتَ أو النهاية اقتربت، لأنّ من يعطي لا يموت.. ولا يسمح للموت منه أن يقترب..
إذا أحبَبْتَ، فلا تترددّ، إنزع كُلَّ ما يُثقلُ عليكَ كاهلَك، وعُد طفلاً صغيراً، أطلق العنان لكلماتك وأفكارك لأن تخرجَ منك، ولا تخنقها، عندما تكون برفقة من تحب، لا تفكّر بشيءٍ إلّا به هو، إصنع له السّعادة، فالسّعادة هي التي ينتظرها، إجعل من عينيه لغةً للفرح والحب، دعْه يشعرُ بأنّه لا يسيرُ على أرضٍ، بل يحلّقُ على جناحي الحب في عوالم لا تشبه عوالمَنا، إصنعْ من لمعةِ عينيه عنوايناً لقصائد ورسائل حبٍّ وعشق.. لا تؤجّل لحظة الفرح، ولا تخنقها في جوفك، فإن بقيت في جوفك فسوف تحرقك، وربّما إلى الأبد..
لا أعرف إلى الآن سببَ تردّدنا في الإفصاح، ننتظر الغد وكأننا سنعمّرُ في هذه الحياة، ننسى بأنَّنا نعيش الحياة لمرّة واحدة.. ونتردد.. ليقتلنا هذا التردد فيما بعد مرّة.. ومائة.. وألف..
عانق من تحب بكلماتك، بهمسك، بدفء صوتك، واترك الغد للغد، إصنع الجميل اليوم، وسيكون الغد أجمل..
كي لا تعيشَ غصّةَ الحياة، وأنتَ على قيد الحياة، فقط عليكَ أن تبادر.. تذكّر دائماً بأنّك لن تعيشَ عمراً وألف، لكن كن على يقين، بأنَّ لحظة السّعادة، لحظة الفرح، لحظة الحب التي ستصنعها لمن تحب، تعادل عمراً وألف..
إذا كنت تدرك ما هو الحب، فستدرك أنَّ ابتسامةً تخرِجُها أنت من قلب من تحب، تعادل حياةً بأكملها.. بل حيواتٍ عديدة!
اجعلْ من الكلمات التي يردّدها من تحبُّ على مسامعك، عناويناً لقصائدك، ولازمةً تكرّرها في يومك، وموسيقاك التي تفيقُ وتغفو عليها..
لا تقف صامتاً أمامَ من تحب، إذا لم تستطع في لحظةٍ أن تفصح، وخانك الكلام، فاهمس برقة في أذنه، وقل له: أحبّك.. وإذا تكاسلَ الهمسُ عن الخروج من بين شفتيك، إجعلْ من عينيكَ لغةً.. لغةَ حبٍّ، وعشقٍ، وغازلْ بهما من تحب.. وإذا تثاقلت جفونُك، ولم يسعفْك النّظر، فاشعلِ الدّفءَ في أصابعك وسِرْ بهما على شعرها الغجري.. وابتسم.. فقط ابتسم.. وهيَ ستفهم! لا تجعلْ فتاتَك ولو لحظةٍ تشعرُ بالوحدة وهي معك، لا تسمحْ للصّمت بأن يبتلعَ المكان، وأن يبتلعَك.. لا تجعلْها لثانيةٍ تشعرُ بأنّك لسْتَ بجانبها، فإن سمحْتَ لهذه الثّانية بالاقتراب فإنّك ستخسرُ المعركة، وفي معركة الحب، يجب ألّا تفكّر إلّا في النّصر.. ولا شيءَ سواه!
كُنْ قريباً من قلبها، واشعرْ به، إذا شعرْتَ لوهلةٍ بأنَّ برداً يحاولُ غزوها.. فامنعْهُ.. إفعلْ ذلك بأنفاسِك، فقط أشعِلْ ما بداخلِكَ، صيّرْ من عظامِكَ التي بداخلِك حطباً، وأشعلْها، ودفْئها.. كن لحظةَ الدّفء في عزِّ بردها، وكن نسمةً باردةً في لحظةِ قيظها..
إذا أردْتَ الحياة، فلا تكُنْ بخيلاً في العطاء.. فعطاؤكَ هو من سيصنعُ يومَكَ، وحاضرَكَ، ومستقبلَك!
أغبطُك يا صديقي إن كنت تعرف كيفَ تحب.. فإن علمتَ كيف تحب، فأنتَ بلا شك.. على قيد الحياة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى