مهنة فنية مغيَّبة!
بقلم: علي جبار عطية
اختفت مهنٌ شعبيةٌ كانت جزءاً من حياتنا، وصارت جزءاً من التراث، وكان أصحابها يعطون للبيئة المحلية نكهتها، وهم شهود على مرحلة اقتصادية صعبة مثل خياط الفرفوري، وصباغ الملابس، وهناك مهنٌ في طريقها إلى المتحف مثل مصلح الساعات، والإسكافي، وجاء الدور على مهن عريقةٍ كالنجارة، لها تأثير كبير على حياة البشرية منذ فجر التاريخ، في بناء البيوت، وصناعة الآلات والقوارب والسفن والبيوت وغيرها، وهناك أنبياء اشتهروا بمهنة النجارة كنوحٍ وزكريا وعيسى عليهم السلام.
من مؤشرات انحسار مد النجارة اليدوية قلة عدد المحال في المدن، واقتصار عمل النجارين الصامدين على طلبات الزبائن المتمسكين بالصناعات المحلية، غير آبهين بالمستورد من الأبواب والشبابيك، والأثاث، وهناك من النجارين من حوَّل عمله إلى البناء قبل عمليات الصب الكونكريتي فالعيشة لها أحكام، وصاحب الحاجة أعمى!
أتأمل الأبواب والشبابيك التراثية في البنايات المطلة على شوارع بغداد العريقة مثل شارع الرشيد، وشارع الجمهورية، وتمر أمامي كشريط سينمائي مراحل تطور النجارة عبر التاريخ من العمل اليدوي إلى اختراع المكائن الخاصة بالنجارة لتسهيل عملية التصميم والتصنيع،وصناعة مخارط الخشب الآلية، والمثاقب والمناشير الكهربائية،ثمَّ الدخول إلى زمن المكائن الحاسوبية الرقمية التي تمتاز بالدقة العالية في القياسات والتشكيل والقطع والنحت.
تبهرني قدرة الإنسان على الاستفادة القصوى مما متوفر في الطبيعة، واستخدام البدائل، والتكيف مع معطيات الحضارة ويدهشني إصرار النجارين على إضافة لمساتهم الفنية على مصنوعاتهم ، ولا أستغرب ذلك فالنجارة مهنة وفن، ويكاد النجار أن يعامل معاملة النحات!
كشف لي الصديق الفنان التشكيلي خالد جبر يوماً أنَّه عمل في شبابه نجاراً !
وأردف: إنَّ النجار فنان وإنْ لم يعرف بذلك!
وهو محق للغاية في ذلك فما الفرق بين النجار، ومهندس الديكور في المسرح والسينما والتلفزيون؟ ولماذا يظهر اسم الأخير في الأعمال الدرامية، ولا يظهر اسم النجار؟
أتابع نحات التوابيت في الشارع المؤدي إلى ساحة الشهداء ببغداد، قريباً من دائرة التقاعد العامة، ألمح الناس المارين يتحاشون النظر إليه، ويحثون السير أمام محله حذر الموت! ولا أرى فيه إلا فناناً مثابراً، منهمكاً في إضفاء الزخرفة على بعض التوابيت حسب رغبات الزبائن الأحياء فلكلٍ سعره ولولا اختلاف الأذواق لبارت السلع!
والسؤال المثير للفضول هو لماذا لم تقتحم المرأة مهنة النجارة؟