لـمحات من شخصيّة الشّيخ محمد البشير الإبراهيمي في ذكرى وفاته

الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام | الجزائر

الشّيخ محمد البشير الإبراهيمي (1889 ( 1965م) أحد أقطاب الحركة الإصلاحيّة في الجزائر، أسهم إسهامًا فعّالا في النّهوض بالشّعب الجزائري، وجاهد جهادًا كبيرًا في المحافظة على أصالة الجزائر ومقوّماتها؛ بالوقوف أمام مخطّطات الاستعمار الفرنسي ومشروعاته الرّامية لسلخ الجزائر من هويّتها ودينها ولغتها وتاريخها. ناضل في هذا المضمار مع زملائه العلماء والوطنيّين الأحرار في مختلف الأصعدة والمستويات، وبمختلف الوسائل والأساليب..

هو عالم وأديب (كاتب وشاعر وخطيب)، عرف بأدبه الرّصين: فكرًا وصياغة ومعالجة قويّة للقضايا والمسائل المعروضة في السّاحة الوطنيّة والعربيّة والإسلاميّة.. لقب بجاحظ القرن العشرين؛ لكتاباته الرّاقيّة الرّائقة، وكان عملاقُ الأدب العربي الحديث عبّاس محمود العقّاد ينحني إجلالًا لأدبه وفكره، وكان يخاطبه بــ ” يا استاذنا”.

عرف بتآليفه الكثيرة، لكنّ أغلبها (إن لم تكن كلّها ما تزال مخطوطة) يتصدّر هذه المؤلّفات ما يتّصل باللّغة العربيّة، نحوا وصرفا وأصواتًا وفقه اللّغة.. قال عنه عبد الرّحمن شيبان (ت 2011م): ” والبشير الإبراهيمي إمام في العربيّة وبلاغتها، تفقّه في أسرارها، وتغذّى بآدابها، واستنار بقرآنها؛ حتّى أقام لنفسه منها مدرسة تشهد بأنّ لغة العرب ما تزال – كما كانت في عصورها الذّهبية –   صالحة لأن تكون لغة العلم والفنّ والجمال” (جريدة العصر، عدد: 88).

كان رئيس جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين بعد وفاة الشّيخ عبد الحميد، ابن باديس.. ورئيس تحرير جريدة البصائر، وعضو مجمع اللّغة العربيّة. قال عنه الشّيخ حمّو بن عمر فخّار (ت 2005م): ” فحياته كلّها وحشة واغتراب، ومسؤوليّات واضطرابات، ومفاجآت ومجابهات، وخطب ومقالات، ومصاولات ومداولات ومناورات..

قضى في الغربة: تعلّمًا وتعليمًا قرابة عشر سنوات، من 1911 إلى 1921م.. وقضى في السّجن والمنفى خمس سنوات من سنة 1940 إلى 1945م. وقضى في الرّئاسة (يعني رئاسة ج.ع.م. ج) خمسة وعشرين عامًا، من سنة 1940 إلى 1965م. هذا بقطع النّظر عن غربته الثّانية بالكنانة، التي دامت عشر سنوات، من 1952 إلى 1962م؛ لأنّها فترة استثنائيّة، وهو بالتّالي يعمل – وإن كان على بعد – لصالح الجمعيّة وبعنوانها المتألّق المحبوب”. (مجلّة الحياة، العدد الثّاني، ص: 75، 76).

كانت هموم المسلمين هي من اهتماماته، بل ممّا يؤرّق ويقضّ مضجعه، يستنهض الأمّة، ينعى عليها تخلّفها وتأخّرها، يعالج مشاكلها..من أقواله المأثورة الخالدة النّابعة من عصارة التّجارب، والمنبثقة من العراك مع تطوّرت الحياة، ومن عَرْكِهِ لها..:” المدرسة هي جنّة الدّنيا، والسّجن هو نارها، والأمّة التي لا تبني المدارس تبنى لها السّجون.. والأمّة التي لا تصنع الحياة يُصنَع لها الموت.. والأمّة التي لا تعمل لنفسها ما ينفعها ويسعدها، يُعمل لها ما يضرّها ويشقيها.. والأمّة التي لا تجعل الأخلاق مِلاكها أمّة تتعجّل هلاكها.. والأمّة التي تلد لغيرها أمّة تلد العبيد، لا أمّة تلد الأحرار والصّناديد.. والأمّة التي تعتمد في حياتها على غيرها، طفيليّة على موائد الحياة، حقيقة بالقهر والنّهر وقصم الظّهر.. والأمّة التي لا تكرم شبابها بالعلم والتّثقيف مضيّعة لرأس مالها “.

هذه الأقوال تبرز لنا ما يسكن داخل البشير الإبراهيمي من هموم نحو الأمّة، ما يستدعي هممًا لتطبيق ما نبّه إليه، وعزائم للنّهوض من الكبوات والقيام من السّقطات.. من جملة ما يحقّق ذلك الاهتمام بالشّباب.      

لذا قام هو على هذا الثّغر، يُكَوِّن أبناء الأمّة؛ يعلّمهم ويثقّفهم.. كان اهتمامه بالشّباب بارزًا. كتب من أجلهم ولهم كتابات كثيرة، هو يراهم عماد الأمّة وسنادها ومستقبلها، عبّر قائلاً: ” شباب الأمّة هم عمادها، وهم مادّة حياتها، وهم سرّ بقائها. وخيرُ شباب الأمّة المتعلّمون والمثقّفون، البانون لحياتهم وحياة أمّتهم على العلم، وصفوةُ الشّباب المتعلّم هم المتشبّعون بالثّقافة الإسلاميّة العربيّة والمقدّمون لها؛ لأنّهم هم الحافظون لمقوّماتها، المحافظون على مواريثها، وهم المثبتون لوجودها، وهم المصحّحون لتاريخها، وهم الواصلون لـمستقبلها بماضيها..” (آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج3، ص: 365).

وجّه سنة 1366ه/ 1947م رسالة إلى الطّلبة الجزائريّين الذين يدرسون في جامع الزّيتونة بتونس، وَهُم يحتفلون بالذّكرى السّابعة لوفاة الشّيخ عبد الحميد، ابن باديس قائلا في بدايتها: ” أحيّي بتحيّات الله المباركة طلبة العلم المهاجرين في سبيله، لا أخصّ بتحيّتي من ينتسبون إلى وطن، أو تجمعهم جمعيّة، بل أَعُمُّ من يُظِلُّهم دين، ويربطهم لسان، ويجمعهم جامع، أولئك كلّهم أبنائي، يستوون في حبّي لهم، وعطفي عليهم، وآمالي فيهم، آحادهم وجموعهم، وأحيّي بأحسن منها إخواني العلماء…” ثمّ قال: ” إنّ الإسلام والعروبة يا إخواني ويا أبنائي إذا ذُكِرَا ذابت القيود وتلاشت الحدود، واجتمعت الأقطار على رحبها في بيت. وإنّ أخوّة الإسلام والعروبة لا تقوم على الأقوال، وإن طالت وكثرت، وإنّما تقوم على الأعمال والحقائق.

ولو أوتينا رشدنا لأقمنا كلمتي المسلم العربي مقام هذا النّسب المعروف إلى البلدان والقبائل، فما هذا النّسب إلاّ ثغر ومداخل لشياطين الوطنّيّات الضّيّقة التي ليست من ديننا، ولا من ميراث سلفنا، فتواصوا جميعًا بتحقيق هذه النّسبة الإسلاميّة العربيّة، وتثبيت أصولها في نفوس أبناء هذه الأمّة.” (مجلّة الموافقات، العدد الرّابع، ص: 759 ، 760).

هذه الأسطر تكشف عن روح المحبّة والعطف التي يكنّها الشّيخ لأبنائه الطّلبة، وتبرز الاهتمام الذي يحظون به منه ورعايتهم وتوجيههم.. هي – في المحصّلة – العلاقة الحميميّة بين الأبوّة والبنوّة. كما تُظهِر الفكر الوحدوي الذي يبني النّفوس وينشئُ العقول على الأسس الصّحيحة، وتبيّن كيف يكون الارتباط بالأصول والتّفكير بمنهج الوَحدة والتّماسك والانتماء إلى أرومة واحدة. هذا الفكر نحتاجه في هذا الزّمن الذي تغيّرت فيه الموازين، وتبدّلت المفاهيم، واختلطت التّقديرات.. فأنتجت مجتمعات متنافرة متطاحنة، مختلفة في تقدير الهويّات والمقوّمات والقيم، وتحديد الانتماءات.

من جملة ما يسجّل في اهتمامات الشّيخ الإبراهيمي حرصه على نشر اللّغة العربيّة والدّفاع عنها، والعمل على إحيائها والدّفاع عنها.. في ساحة الصّراع على إثبات الوجود والبقاء والاستمرار، زمن المؤامرات والمناورات والمساومات والضّغوط للقضاء على كيان الأمّة في فترة الاستعمار الفرنسي الغاشم الظّالم..    

شغلت القضيّة الفلسطينيّة فكر البشير الإبراهيمي كثيرًا، وأسالت من حبر قلمه الكثير.. كتب سنة 1948م ما يقرب من عشرين مقالة فيها، عالج فيها كثيرًا من العناصر والموضوعات المتعلّقة بها.. إنّ كثيرًا ممّا قرأته فيها ينطبق على حالنا اليوم من القضيّة؛ غطرسةَ اليهود وتماديهم، وطبيعةَ المفوضات التي يجريها العرب مع الصّهاينة، التي يبدو فيها الطّرف العربي ذليلا جبانًا، متخاذلا أحيانًا، أقرأ المقالات وأتّخيل الشّيخ البشير الإبراهيمي وهو يكتب ما كتب سنة 1948م في النّكبة والصّفقة التي أعطت الأرض للمغتصبين، وطردت منها العرب منها، أنّه حاضر يوم تمّت اتّفاقية ” غزّة وأريحا” سنة 1993م، وهو يحذّر من المؤامرات التي تنطوي فيها، وعن الخداع الدي يختفي فيها، وعن العواقب الوخيمة التي تنتج عنها بمرور الأيّام، بما يضمن ويمضي قدمًا لتصفية القضيّة الفلسطينة بموجب بنود هذه الاتّفاقيّة.. تتسارع الأحداث، فتنكشف خيوط المؤامرات، فتنخلع الخيانة من دثارِها، ويكشّر المكر الصّهيوني، فتخذل القضيّة، ويأتي التّهديد الأخير، بل الأمر الأخير بعد أخذ حكومة مجرم الحرب ” نتانياهو” ثقة الكنسيت”، بأن يستولي على أجزاء من الضّفة الغربيّة، التي من بين ما استفاده الفلسطنيّون (بل هو استرجاع لما نهب منهم) من اتّفاقيّة 1993م، وكذا إعلانه ضمّ غور الأردن..

إنّ في نظرة الشّيخ الإبراهيمي إلى نتائج الخذلان والتّقاعس والخيانة والسّذاجة والغفلة ما يكشف عن علوّ الهمّة وقمّة التّفكير، وعمق التّحليل، وبعد النّظر..   قال مثلا: ” وجاءت نكبة فلسطين، فكانت في قلبي جرحًا على جرح، وكانت الطّامّة والصّاخّة معا، وكانت مشغلة لفكري بأسبابها ومآسيها، وعواقبها القريبة والبعيدة، فلا تصوّر لي الخواطر إلاّ أبشع ما في تلك العواقب.. رحبتُ إلى العيد الذي هو مثار أشجاني، فجرّدت منه شخصًا، أخاطبه وأناجيه، وأشكوه وأشكو إليه، وأسأله وأجيبه، وأبثّه الشّكاية من قومي غيظًا على القادرين، وتأنيبًا للغادرين، حتّى اجتمعت لي عن ذلك صحائف مدوّنة، نشرت القليل منها على النّاس، وطويت الكثير إلى حين..” (آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج3، ص: 162، 163)

هذه بعض الملامح في شخصيّة الشّيخ البشر الإبراهيمي، وهذه شذرات من جهاده الكبير والطّويل للدّفاع عن الهويّة العربيّة الإسلاميّة، وومضات وإيماءات من همساته وصرخاته ونداءاته.. ليقوم المسلمون من سباتهم، ويفيقوا من غفلاتهم، وينهضوا من سقطاتهم.. رحمه الله.. كانت وفاته يوم 19 من مايو 1965م. ونحن اليوم نحيِي ذكرى وفاته الخامس والخمسين بهذه الأسطر القليلة، وهو أضعف الإيمان في إنصاف الرّجال الشّجعان، الذين جاهدوا في طريق البرّ والإحسان..  

قال عنه شاعر الثّورة الجزائريّة مفدي زكريّاء (ت1397ه/ 1977م):

يَا كـــريـمًا، يَطيبُ     فيهِ     النّظـــامُ

 

التّـحيّـاتُ،         أ يُّهَـذَا         الإِمامُ

الـتّحيّاتُ –  يَا بشيرُ    –    وفي الإِطْ

 

رَاءِ مَعْنًى،     يَضيقُ    عَنْهُ   الكلامُ

الـتّحيّاتُ،     باعثَ    الرّجّـةِ     الكُبْــ

 

ــرَى،   تَــهاوَى    حَيالَـها    الأَصْنامُ

وَالذِي     أَلْـهَبَ     الـعَزَائِــمَ، فَانْقَضْ

 

ضَتْ     تَبارَى،   يَسُوقُهَا    الإِقْـدامُ

والذي فَكَّ   طَلْسَمَ   الشَّعْبِ    فارْتَدْ

 

دَ بَصيرًا،  وانْـجَابَ     عَنْهُ     الظّلامُ

و  الذي     أَنْقَذَ    الـعُـروبَةَ       لَــمَّـا

 

نُصِبَـتْ         للعُرُوبَـةِ         الأَلْغـامُ

وَ   حَـمَى ( دولةَ الكتابِ  )  وكانَــــتْ

 

في الـحِمَى  (دولةُ  الكتابِ)   تُضامُ

(اللّهب المقدّس، ص: 240، 241)                                    

الجزائر يوم الثّلاثاء: 26 من رمضان 1441ه – 19 من   مايو   2020م

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى