وترجل بهدوء عن صهوة جواده

أ.د. محمد سعيد حسب النبي
في يقين الجبال الرواسخ، وإيمان البحر العميق الغائر، تودع جامعة أكتوبر للعلوم الحديثة والآداب رئيسها وحاضنها، ومتبنيها وبانيها الراحل النبيل الأستاذ الدكتور خيري عبد الحميد. ترجل الراحل بهدوء عن صهوة جواده. رحل والجامعة تبكيه، وتضج عليه تشتهيه. رحل وترك أكباداً ملتاعة ووجداناً لا يحتمل أوجاعه. رحل وقد أطرق الجمع وانحبس الدمع. رحل وقد وكلناه إلى رحمة الملك القدير، السميع لما في قلوبنا والبصير.
لقد كان الدكتور خيري عبد الحميد ربان سفينة الجامعة، قادها بفطرة نقية وعلم مكتسب ومهارة فذة، ليحمل أعباء التأسيس ورحلة النمو عاماً بعد عام. رحل تاركاً جامعة فتية وصرحاً علمياً مشهوداً بتميزه وإبداعه.
لقد وعى الراحل أن نجاحه مرهون بقدرته على الإبحار في مياه تختلف لوناً وعمقاً واتساعاً، وهذا يستلزم أن تكون قلوب قاطني السفينة موحدة؛ وبهذا ألّف القلوب ووحّد البيت بفطرة قائد يعلم تيارات النفوس ومراميها، وما يجتاحها من خواطر مهما امتدت مساعيها.
وقد تمتع الراحل العظيم بثلاث صفات؛ فقد كان أميناً على الجامعة بكل من فيها وما فيها، يُلّم بما يحيط بها وما ينتظرها، وقد كان شجاعاً فلم يضطرب لحادث مهما كبر، ولم يتأثر بعارض مهما عظم. ثم كان الراحل صاحب بصر وبصيرة ونقاء سريرة، جذل النفس صافيها، تبصر في جوفها صور جميع الأشياء واضحة كأنها البحر العميق الصافي.
ولقد تراه يواجه الشدائد الثقيلة بثبات لا نكوص فيه، وعقل لا يفقد توازنه واعتداله، يحبس النفس على ما تكره، مبتلعاً مرارة الوجد لينتصر الرضا في النهاية، وإنك لتستشعر أنه قد ذاق برده ليس بأمر مباشر ولا توجيه جاف، وإنما بتلطف مع النفس واستدراج لمشاعرها النافرة.
ولئن رحل الرجل جسداً؛ فإن ما تركه سيصير نقشاً لا يمحى على جدران الجامعة ووجدانها، وأثراً باقياً في كل نفس تعاملت معه يوماً أو تعلمت منه قيمة وخلقاً أو اكتسبت منه علماً وفكراً.