حمود ولد سليمان(غيم الصحراء)| موريتانيا
01_
الكتابة هذه الفاتنة الجميلة المستعصية دون عناء، المعتصمة دوما بالبعد المفقود، هي الأرق الأبدي للكاتب والقدر السعيد الذي عليه أن يحياه ويتحمل معاناته ويتجرع كاساته ليتذوق لذاذاته؛ كلما تقدم الزمن بالكاتب وصهرته الحوادث وصقلته التجارب،، انفتحت أمامه الآفاق الرحبة، راوده حلم كلكامش، ارتحل مع الطير نحو السميرغ، حملته جياد برمنيدس إلى الأقاصي، إلى حيث كل جهات الحرف والمعني ..
**
في فتنة الكتابة
وقفو الأثر
تأخذنا
صبوات المداد
**
وفي فتنة الورق
يتم التناسل الأبدي
تورق الحقول
*
لأن الحروف كما قال ابن عربي “أمة من الأمم مخاطبون ومكلفون “والفتوحات لاتنتهي والكتابة دوما سفر خروج.
02_
في روايتها الخارج من معطف غوغول تطرح الروائية السودانية إسراء الأمين الريس موضوعا جديدا في التناول السردي الروائي العربي، وهو الكتابة كمعطي أولي وكخيار نهائي، يترتب عليه الكثير من الجهد والمصاعب والتحديات. تعالج الكتابة بوصفها مشغلا لدي كل كاتب في هذا الوجود فالكتابة بوصفها قلقا وجوديا وسؤالا لايهدأ، وبوصفها صراعا مع شرطية الحياة القاسية، وبوصفها موازية للواقع ومحاولة لنقله ونقده في اللاواقع تتعالق الخارج من معطف غوغول مع المعطف لنيكولاي غوغول(1809. 1852) وتؤسس عليه رؤيتها السردية، المعطف هو مهاد هذه الرواية التي تنطلق من مناخ وسياق الرواية إلى تخوم أخرى مختلفة عنه.
03_
لذالك تصبح هذه الرواية رواية عن قصة وإن كانت مختلفة عنها في الرؤية والشكل والأسلوب. مما يحتم علي القاريء أن يتنازل، ويقرأ المعطف لنيكولاي غوغول. لأن النص يدعوه لذلك.
04_
المعطف: قصة للكاتب الروسي الشهير نيكولاي غوغول نشرت 1842.في القصة يحلم البطل اكاكي اكيفتش المثير للشفقة والموظف البسيط بالحصول علي معطف .الذي يمثل في نظره
الكرامة ويمنحه الهيبة ويخلصه من عذاب تراتبية المجتمع الروسي . بعد جهد كبيرفي جمع المال واقتصاد شديد للنقود ذاق خلالهما اكاكي صنوف الحرمان والتضحية .يحصل البطل علي المعطف .وفي ليلة ارتدائه يتعرض للهجوم وينتزع منه المعطف .فيبلغ الشرطة ويعده احد المسؤولين الكبارباستعادة معطفه ثم يتخلي عنه .فيصاب بالخيبة والحزن والحمي ثم يموت المسكين .ويبقي شبحه يزور شوارع اسطراسيبورغ الثلجية .وذات مساء يفاجأ بالشخص الذي وعده بالمساعدة وعليه معطف فينزعه منه ويختفي شبحه إلي الأبد
هذه هي قصة المعطف التي أثارت الكثير من الاهتمام النقدي بل واعتبرها اكبر الكتاب الروس إنجيل الأدب السوفيتي. وقد قال دوستويوفسكي عنها مقولته الشهيرة كلنا خرجنا من معطف غوغول
05_
القصة خيالية في قالب هزلي .قرأت وأولت في مستويات عديدة منها الشفقة علي ضحايا الظلم الاجتماعي ومنها انها وليدة قصص شعبية ومنها انها تحمل تصورا دينيا مسيحيا يدعو للتعاطف مع مثل هؤلاء الهامشيين الضعفاء . وغير هذا وذاك
تطرح القصة معاناة الكاتب بين الطموح والواقع بين الملائمة بين الخيال والواقع وفي مستويات اخري الفقر والظلم والقسوة وغياب العدالة بين بني البشر. في نهاية القصة ينتصر نيكولاي غوغول للخيال للحلم للا واقع؛ فيبعث شبح اكاكي ويأخذ المعطف .هكذا تنتصر العدالة بطريقة غوغول الشعرية المستحيلة .
06_
الخارج من معطف غوغول.. أخذني هذا العنوان كثيرا واستدرجني لقراءة الرواية ولما أكملتها .تساءلت: لم عنونت الكاتبة روايتها بهذا العنوان؟
أعتقد أن الكاتبة وفقت في عنوان الرواية الي حد كبير؛ ذالك لأن مناخ الرواية من ألفها الي يائها روسي بامتياز. كل الأمكنة الشخوص والحمولة المعرفية والاستشهادات. كل شيء روسي .في كل النص لاعلاقة للرواية بالأرض السودانية التي هي جزء من العالم العربي والإسلامي.مما يمكننا أن نقول معه ان الرواية نبتت في استراسبورغ وثلجها .ومجتمعها وكتابها .
لماذا كانت الرواية كذلك؟! ولم تتناول السودان كمكان أو حدث أو شخصية، لماذا لم تحاول أن تمد خيطا سرديا نحوه علي الأقل يشد نحو الرواية . في هذه النقطة توقعت وربما يتوقع القاريء العربي مثلي أن يجد بيئة ومناخ مشابه لأرضه وثقافته وعالمه، بدل بيئة أخرى تبدو غريبة بالنسبة له وكلما تقدم في الرواية زادت غرابتها أكثر .. اعتقد وهذا رأيي فقط أنه لو أقحمت الكاتبة السودان في الرواية بطريقة أوبأخرى لربما كان القاريء أكثر انسجاما وكانت الرواية أكثر امتاعا ومؤانسة . وقربا من المتلقي .
07_
علي كل لايمكن أن نحجر علي الكاتب في موضوع رواياته، فكل كاتب حر في موضوعاته وطريقة تناوله؛ لكنني أعتقد أن الرواية تستدعي من الكاتب أن ترتبط بمنتجها وثقافتها وألا تنفصل عن واقع الكاتب. هذه رؤيتي للكاتب أن يتناول اي موضوع يشاء لكن من الأحسن ان يربطه بطريقة مباشرة أو غير مباشره بارضه وثقافته .ولو في جزيئة صغيرة .
08__
مشغل الكتابة بهواجسه وأسئلته وأرقه، نجده عند كل كاتب، وقد تناوله كتاب كثر وان اختلفوا كل كاتب تناول هذا الموضوع بطريقة أو أخرى، والأمثلة كثيرة .يحضرني هنا ابراهيم الكوني في روح البعد المفقود وواسيني الأعرج في أنثي السراب /شهوة الحبر وفتنة الورق وأرنست همنجواي في جنة عدن
09_
قرأت من قبل مجموعة قصصية للكاتبة بعنوان زقاق الحكايات، واعتقد ان الكاتبة تشتغل علي مشروع الكتابة فيما تكتب وتعمل علي تعميقه وهو توجه جميل .يجعل من الكاتبة تحاول أن تشق طريقها الخاص بنفسها وأن تتفرد فيه.
010_
أخيرا أقول: إني استمتعت بهذه الرواية الجميلة، واعجبتني نهايتها المتفائلة الواقعية .حيث غادر ميخائلوفيتش نحو خوانيتا ليعيشا معا إلى الأبد وينجبا رواية أخرى ويعيشا في نعيمها .
______
*الخارج من معطف غوغول /إسراء الأمين الريس
ط /الثالثة /2023/دار نرتقي للنشر والتوزيع /السودان .
