قراءة في رواية (أنين القصب) للدكتور حسن حميد

طاهر مهدي | أديب وناقد عراقي

طاهر مهدي الهاشمي
من خلال حكايات فلسطينية قديمة حاضرة متجددة في الذاكرة , استطاع الدكتور حسن حميد أن ينسج روايته الراصدة لملامح الشخصية الفلسطينية , مشخّصاً تلك الأساطير الغابرة والغارقة في عمق الموروث الجمعي , حيث يتلولب الحوار في تصعيد درامي متاخم لشغف النفس البشرية في تقصي الأسرار , واستكناه المقدّس باعتباره يكرّس خلود الروح عبرإحياء القيم وتوارثها جيلاً بعد جيل .
وهو من خلال تغلغله في دلالات الحكاية الفلسطينية مولّداً منها تلك الشحنات المثيرة في ارتباطها الوثيق , بين الحب والمقاومة .
يتمدّد الزمن في روايته ( أنين القصب ) ليملأ المدى شغفاً وحنيناً , فهو في دخيلته المتطلعة أبداً لتأكيد هويّته وتثبيتها لا يحفل بأثلام الجسد , فروحه الوليدة في تجددها اللحظي , تتخطّى ذلك التمدّد لتنبثق حارّة طازجة , على زمن مفتوح لا يعترف بنسيان , فكل ما في الجعبة موثّق بدم ودموع .
تتمظهر الشخصية الفلسطينية في روايته أنين القصب مجسّدة أكثر ما تتجسّد من خلال شخصية (شتيوي) ذلك الرمز المغامر بما يحمله من نقاء وصفاء , من شجاعة وبطولة , وما يضفيه ذلك التوافق الميمون بين الماضي والمستقبل , هو ما يجعل الأحفاد يفتخرون بأجدادهم , ويحتفون بذلك الماضي السعيد الذي تتولّد منه أيامهم المقبلة , ارتكازاً على ثلاثية الموت والمقدس والعشق في حوار تصاعدي يدور في فضاء التلميحات والإشارات الرائعة التي ترجع إلى ذلك الزمن الأليم , حين يمتهد العدوان الصهيوني فسحته الخادعة لاغتيال الزمن والانقضاض على المكان .
تخبّ الرواية في سيرورتها السردية على قوائم قوية واثقة , فهي تمتلك ناصية الانسياب الحكائي , لتشهر دلالة الصهيوني في ازدواجيته التي تصنع ثلاثية الفلسطيني المبنية على الموت والعشق والمقدس , نقيضاً معلناً عن الدنس والكراهية والقتل , في توصيفه عدواً للحكاية الفلسطينية المجبرة على الرحيل .
في كلتيّ الحكايتين المتناقضتين واللتين تقفان وجهاً لوجه من خلال تدفق الحدث , وتمظهر الشخصية , حيث تكرّس الحكاية الفلسطينية بغنائيتها الفياضة تصاعداً زمنياً يشي بفضاء نقيّ آمن , نجد الحكاية المناقضة تعترض الحكاية الأولى محبطة مهاجمة , شاهرة أدواتها اللئيمة المغمّسة بالدنس والكره والجريمة , وشتان ما بين الحكايتين , فالموت في الأولى لا يشبه الموت في الأخرى , إنه في الحكاية الأخرى موت ظالم كاسح يكتنس العشاق من مواقعهم القدسية ويذروهم رماداً في أعين الدهر , ذلك الدهر المنقوص الوجدان والفاقد لكل عدالة .
في رواية أنين القصب تجتذبك تلك الروح التراثية المفعمة بالمحبة والعشق للطيب والجميل , ولكل ما يكرّس لصالح الخير والحق والجمال .
في حين تنفرك تلك البهيمية الشارخة المشروخة , مذكّرة بغاب من الذئاب , لا تجد فيه موطئ قدم لنبيل أو شريف .
تتميّز تلك الرواية المنسوجة من حب وألم وحنين وقداسة , بما تطلقه فينا من أوجاع واشتياق و وما توقظه في ذاكرتنا الجمعية من من روعة الماضي وبهائه , محفّزة مهيبة بنا لاسترداد ما سلف من أمجاد .
بأسلوب قائم على الحواشي السردية والمداخلات الحكائية الإخبارية , يبني الدكتور حسن حميد روايته لبنة لبنة من سالف وتالد , موازياً بين النقيضين موفّقاً بينهما بما أوتي من حس مرهف وذاكرة حاضرة ولغة منمّقة , وصور شعرية ترسل أقمارها إلى مدارات تلقّينا , فتبرق فينا بوارق الكلف والشغف , وتحملنا معها إلى فضاءات لا متناهية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى