15 لطيفة لُغوية من سورة يس

إعداد: أ. سعيد مالك – معلم لغة عربية
إن سورة يس من السور المكية ذات الأسلوب البليغ و الإيقاع المؤثِّر، وقد اشتهرت بين الناس بكونها “قلب القرآن” لأنها أجملت ما جاء في القرآن من مبادئ التوحيد وأصول العقيدة وما فيها من معانٍ عظيمة، وأسلوب قرآني يدهش القلوب والعقول. وإذا تأملنا في ألفاظها وتراكيبها وجدنا فيها ثروة من اللطائف اللغوية التي تعكس الإعجاز البياني للقرآن الكريم. وفيما يلي عرض لأبرز تلك اللطائف:
أولا: افتتاح السورة بالحروف المقطّعة:
افتُتحت السورة بقوله تعالى:{يس}. وهذه الحروف المقطّعة من أسرار القرآن التي حيَّرت المفسرين، وقد قيل إنها من أسماء النبي ﷺ أو للتنبيه إلى إعجاز القرآن (الزمخشري، الكشاف). والاقتصار على حرفين فقط يعكس الإيجاز والإيقاع الصوتي (ابن عاشور، التحرير والتنوير).
ثانيا :القسم بالقرآن الحكيم:
قال تعالى:{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}، فجاء القسم بالقرآن، ووصفه بـ”الحكيم” على وزن فعيل بمعنى فاعل، أي المحكم في ألفاظه ومعانيه، أو المشتمل على الحكمة. واللطيفة هنا أنّ الوصف جاء بصيغة اسم الفاعل “الحكيم” ليُشعر بالدوام والاستمرار (القرطبي، الجامع لأحكام القرآن).
ثالثا:(حُسْن الالتفات):
في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} نجد التفاتاً بديعاً، حيث تحوّل الخطاب مباشرة إلى النبي ﷺ بعد القسم، لتثبيت رسالته. هذا الانتقال المفاجئ يعطي قوة وإيقاعاً خاصاً .
كما ظهرأسلوب الالتفات في مشاهد القيامة حيث قال سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ}. الانتقال من الغيبة إلى التكلم المباشر (نختم) يعكس رهبة الموقف ويزيد تأثير المشهد (الزمخشري، الكشاف). الالتفات من الماضي إلى الحاضر: قال تعالى:{وَضَرَبَ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)}. كما جاء الانتقال من صيغة الماضي “جاءها” إلى الحاضر في مشاهد الحوار: {قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا (15)} يجعل القارئ يعيش القصة كأنها واقعة حاضرة (ابن عاشور، التحرير والتنوير).
رابعا: الدقة في بيان صور الإعراض والصدود:
قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُّقْمَحُونَ}. هنا صورة بليغة لجمود القلوب، حيث شبّه حالهم بمن أُغلّت أعناقهم فلا يستطيعون الالتفات. لفظة “مقمحون” من القَمْح، وهو رفع الرأس قسراً (ابن عاشور، التحرير والتنوير).
خامسا: التدرّج في التهديد والوعيد:
قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}. يظهر التدرّج من سدّ أمامهم ثم خلفهم ثم غشاوة على أبصارهم، تصويراً لحالة الانغلاق التام (الزمخشري، الكشاف).
سادسا :بلاغة الإيجاز مع الحذف:
قال تعالى:{إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}. في كلمات قليلة صُوِّرت نهاية البشرية وصعقة القيامة، بجرس لغوي شديد الإيقاع . قال تعالى:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)}.فالآية قداشتملت على حذف بديع، حيث لم يذكر المثل الذي ضُرب، وإنما اكتُفي بالإشارة: {وضرب لنا مثلاً}. هذا الإيجاز يزيد من بلاغة النص (ابن عاشور، التحرير والتنوير).
سابعا :تنويع الأساليب بين الترغيب والترهيب:
في قوله تعالى:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} نرى الألفاظ الموحية بالنعيم والسرور، بينما قوله: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} يحمل تهديداً صارماً (ابن عاشور، التحرير والتنوير). هذا التنويع يوازن بين الأمل والرجاء.
ثامنا :قوة الإيقاع الصوتي:
آيات السورة تنتهي غالباً بنون ساكنة أو ميم مشدّدة مثل: مُقْمَحُون – لَا يُبْصِرُون – مُّهْتَدُون. وهذا يعطيها إيقاعاً خاصاً يرسّخ في السمع (فاضل السامرائي، لمسات بيانية).
تاسعا : الاستفهام الإنكاري:
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ (31)}.فالاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ، ليوبّخ المكذبين على غفلتهم رغم وضوح دلائل الهلاك السابق (الزمخشري، الكشاف).
عاشرا : التشبيه التمثيلي:
قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ (68)}.شُبّهت الحياة الدنيا في ازدهارها وزوالها بالمطر الذي ينزل فينبت النبات ثم يذبل. هذا تشبيه تمثيلي دقيق يقرّب الفكرة للعقل (القرطبي، الجامع لأحكام القرآن).
حادي عشر : دقة المقابلة بين النعيم والعذاب:
قال تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ (58)}، في مقابلة مع قوله: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)}.الآيتان وضعتا صورتين متقابلتين: خطاب تكريم لأهل الجنة، وخطاب وعيد للمجرمين، وهذه المقابلة تزيد المعنى وضوحاً وقوة.
ثاني عشر : المجاز المرسل:
قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82)}.
التعبير هنا مجاز مرسل، لأن الشيء لا يُخاطَب حقيقةً، وإنما هو تصوير لسرعة التكوين بمجرد الإرادة (فاضل السامرائي، لمسات بيانية).
ثالث عشر : المبالغة في التوكيد:
قال تعالى:{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)}. التوكيد هنا جاء بثلاث وسائل: “إنَّ” + اللام + “من”. وهذا التراكم في التوكيد يعكس شدة إنكار المشركين وحاجة الخطاب إلى تقوية الحجة (الزمخشري، الكشاف).
رابع عشر : الطباق:
قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ (37)}.في الآية طباق بين “الليل” و”النهار”، يزيد المعنى وضوحاً بالتضاد، ويبرز قدرة الله على تقليب الأحوال (القرطبي، الجامع لأحكام القرآن).
خامس عشر : بلاغةالمشهد الحواري الحيّ:
في قصة أصحاب القرية، قالوا: {مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا (15)}، فأجاب الرسل: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)}.المشهد حواري نابض بالحياة، فيه سرعة ردّ، وجمل قصيرة متقابلة، مما يعطي النص حيوية بلاغية .
خاتمة
مما سبق يتبدى لنا بوضوح كوضوح الشمس في رائعة النهار الصادق العديد من اللطائف اللغوية والبلاغية، منها: الإيجاز، الحذف، التشبيه، الاستفهام الإنكاري، الالتفات، التكرار، الطباق، المقابلة، قوة الإيقاع الصوتي…. وكلها تشهد بأن هذه السورة نموذج حيّ لإعجاز القرآن البياني، الذي لا يزال يدهش البلغاء والنقّاد على مرّ العصورفصدق الله العظيم وصدق رسوله الكريم ونحن على ذلك لمن الشاهدين.



