
شلبى موسى| أوساكا – اليابان
كاتب مصري
لطالما يتبادر إلى خاطري، وأنا أجلس في عربات القطارات السريعة التي تشقّ الأرض كأنها سهام من نور، كيف أسهمت التكنولوجيا في حمل الحضارة الإنسانية من طورٍ إلى طور، حتى غدت حياتنا مرآة متلألئة لعرق جبين العلماء والمفكرين والعمال الذين وهبوا أعمارهم لبناء هذا الصرح. ويغمرني في تلك اللحظات شعور عميق بالإجلال لكل عقلٍ خطّ فكرة، ولكل يدٍ رفعت حجراً في معمار التقدّم. ورغم إدراكي لضرورات الدفاع المسلح في حماية الأوطان، يحدوني الأمل أن تدرك البشرية يوماً أن التعاون من أجل الرخاء هو خط الدفاع الأشد منعةً والأبقى أثراً، بل ربما هو سرّ بقائها.
إن التقدّم الحضاري ليس زخارفَ مادية ولا ناطحاتٍ تُلامس السحاب، بل هو روحٌ تتجلى في القيم التي تضيء دروب الإنسان. فما لم يكن العلم مسخّراً لرفع المعاناة، وتحقيق الكرامة، وفتح أبواب المعرفة للجميع، فلن يعدو أن يكون وهماً يلمع سرعان ما ينطفئ.
لقد علّمنا التاريخ أن كل اكتشاف يحمل وجهين: وجه يُسعف البشر ويقربهم من إنسانيتهم، ووجه آخر يَسحق القيم إن سُخِّر في غير موضعه. النار التي أنارت الكهوف، هي ذاتها التي التهمت المدن. والطائرة التي قرّبت المسافات، هي نفسها التي ألقت قنابلها على الأبرياء. وهكذا يقف الإنسان دوماً أمام مفترق الطريق: هل يُسخّر منجزاته لخدمة الحياة، أم يُديرها لتكون أدوات فناء؟
وليس من شك أن العلم والبحث متى ارتبطا بالمسؤولية الأخلاقية، صارا مشاعلاً تهدي الأمم إلى برّ الأمان. وما أروع أن تُوجَّه عبقرية العقول إلى ابتكار دواءٍ يحيي الأجساد، أو ابتكار طاقةٍ تَحفظ البيئة، أو وسيلة تعليمٍ تمحو الجهل. فهذه هي الغايات التي تجعل التقدّم جديراً باسمه، وتُضفي على الحضارة معنى سامياً.
وإن التعاون بين الأمم والشعوب هو نَفَس الحضارة ومعيار بقائها. فما حُفظ السلام يوماً بكثرة السلاح، بل بوفرة الثقة وعمق المشاركة. إن القوّة الحقيقية تُقاس بعدد المدارس لا عدد المدافع، وبوفرة العلماء لا بوفرة العتاد. وكل إنجاز يُشيَّد بروح المشاركة يُضاعف رصيد الإنسانية، أما كل سلاح يَستنزف الطاقات فليس إلا خصماً من عمرها.


