قراءة في رواية: لابوانت… جدوا قاتلي لـ” محمّد جعفر”

فيروز باش | الجزائر

1/عنوان الرّواية:

العنوان الّذي اختاره الرّوائي “محمد جعفر” لروايته هذه بنظري يلخّص كل شيء لبعضهم،ولا يقول شيئا لبعضهم!”لابوانت” من الوهلة الأولى قد يتبادر إلى الأذهان بأنّ الكاتب يقصد شخصا بعينه.الشّهيد الرّمز”علي لابوانت”،ابن الجزائر وأحد رجالاتها المخلصين الأبطال ،الّذين حاربوا فرنسا إلى أن قضوا نحبهم وما بدّلوا تبديلا.(لقد تمّ إنتاج فيلم تاريخي حربي عام 1966،بعنوان”معركة الجزائر”شارك في تأليفه و إخراجه المخرج الإيطالي جيلو بورتيكولفو.الفيلم يروي أحداث تاريخيّة هامّة عاشتها الجزائر،وصنعها أبناؤها منهم الشّهيد “علي لابوانت” بطل ومحور الفيلم.)لكن الاطّلاع على الرّواية سيجعل القارئ الطّويل النّفس في القراءة بعد مدّ وجزر يدرك

بأنّ الكاتب لا يقصد بالعنوان “لابوانت…جدوا قاتلي.”الشّهيد الرّمز”علي لابوانت”،ولا يقصد شخصا آخر بعينه…ولا يقصد مكانا معيّنا أيضا وإن بدا ظاهريّا بأنّه يفعل ذلك فيما يخص المكان،ففي ولاية “مستغانم” حيث تدور أغلب أغلب أحداث الرّواية مكان يدعى “لابوانت”،وهذا المكان نفسه قد جمع في تاريخ سابق أبناء الثورة الجزائريّة و رجالاتها “اجتماع القادة السّتة:العربي بن مهيدي،رابح بيطاط،كريم بلقاسم،محمّد بوضياف،مصطفى بن بولعيد،ديدوش مراد” لتحديد تاريخ تفجير الثّورة التّحريريّة الجزائريّة.حدث ذلك بالضّبط بتاريخ:23أكتوبر1954.”لابوانت” حي جمع رجالا قرّروا تفجير ثورة مجيدة لاسترجاع الأرض المسلوبة من طرف الاستعمار الفرنسي الغاشم.في ذلك المكان،وفي ذلك التّاريخ،صدر بيان أوّل نوفمبر،وانضوى الجميع تحت لواء جبهة التحرير الوطني،وظهر الجيش الوطني باسمه وكيانه أيضا ليطمئن الجزائريين بأنّ الجزائر لن تكون إلّا للجزائريين،لكن لأنّنا مخلوقات غير منزّهة،وبشريّتها تحتم عليها الإقرار بشأن ضعفها و عدم كمالها…قد يغرق الكثير منّا في طينهم حدّ العدم،وقد يتلوّثون كثيرا،كثيرا،وقد يلتمسون لأنفسهم الأعذار،وقد يستمرون في النّزول نحو القاع وهم يجلدون ذواتهم .وكما أنّه وارد جدّا أن يتعاطف النّاس معهم،وارد جدّا أيضا أن لا يفعلوا ذلك.فالنّاس ليسو الإله الرّحيم،هم فقط “النّاس” لا أكثر من ذلك،ولا أقل.

“لابوانت…جدوا قاتلي”عنوان يحتاج لفهم ما جاء في الرّواية،وذلك بطبيعة الحال يحتاج لقارئ له نفس طويل في القراءة،ولا ينظر إلى الأمور من زاوية واحدة ،قارئ يقرأ ولا يكتفي بتقليب الصّفحات،قارئ يحيط بدلالات ما وراء الظّاهر.من القاتل؟ومن المقتول؟وهل المقتول شخص بعينه؟أم تراه وطن بأكمله بمن فيه وما فيه؟هل نحن أمام عنوان يعرّي المسكوت عنه؟عنوان يخبرنا بأنّ الوطن ليس بخير مطلقا،وقد قتل مرّات عديدة،وفي كل مرّة ينتظر من يقف في صفه وينصفه ولا يجد؟ هل نحن أمام وطن يطلب الخلاص من أبنائه عبر صرخة مبحوحة جسّدها ما جاء في العنوان”جدوا قاتلي”؟وهل هذا أمر أم رجاء؟

“لا شيء غير الظّلمة و الصّمت.فقد اعتادت المدينة النّوم باكرا.”ص16

“نصّب التّمثال في ذلك المكان احتفاء بأبناء المدينة الّذين دافعوا عن القيم الفرنسيّة إبّان الحرب العالميّة الأولى.ليبقى التّمثال في مكانه،يقابل الضّريح،ويشكّل معه لوحة سورياليّة يصعب تأويلها،ثمّ يزاح عقب استفتاء تقرير المصير،ويشحن على ظهر السّفينة المغادرة.يحمل من جديد في بلدة صغيرة نواحي ليون.”ص19

“ومادام ممتلئا بالقوّة،فإنّ الذّئاب نفسها ستظلّ تخشاه،ولن يتغيّر شيء لا اليوم ولا غدا.”ص62

فتح البلكونة أخيرا،فبلعته هتافات المتجمهرين:”بركات،بركات…”ص149

2-موضوع الرّواية:

الرّواية تقدّم حقيقة قراءة مختلفة ومغايرة للتّاريخ الجزائري ،قراءة مربكة تواجه جزءا ممّا كان وما هو كائن في واقعنا دون مواربة أو استعارات.”الخوف،عدم الثّبات على موقف،الأنانيّة،تغليب المصلحة الشّخصية على المصالح العامّة،الخيانة،الغدر،الخسّة،الدّناءة،قلّة المروءة…إلخ،إلخ،إلخ.”أمور حاضرة وبقوّة في الرّواية،لا مكان للبطل الخارق صاحب القدرات الخاصّة في رواية “لابوانت…جدوا قاتلي.”لا مكان للملحمة و الأسطورة في العالم الّذي صنعه “محمّد جعفر” في روايته هذه،لا مكان للبشري القدّيس…رجل اسمه الحقيقي “موحا بلحضري”،كان قلبه على وطنه،وحين نادى المنادي “أن حيّ على خدمة الوطن .” لبّى النّداء،قدّم ما باستطاعته تقديمه،تمّ اعتقاله ثمّ نجحت عمليّة تهريبه من السّجن،وتبرئته من تهمة الوشاية بأحد رفقاء النّضال،ليهرّب بعدها إلى الحدود المغربيّة ،ويتمّ تحويله من طرف القيادة إلى باريس.استعاد هويّته وحمل اسما جديدا “علي هادف” بدل “موحا بلحضري” وحدث ذلك بعد وصوله إلى باريس ،وتواصله مع جماعة من القيادة تابعة للمنظّمة هناك.بدأت رحلته في باريس،ومن مهنة إلى أخرى ،توظّف أخيرا كعامل استقبال في نزل “مرحبا” لمالكه “مسعود بوخريصة” جزائري من مدينة بوسعادة .مرّت الأيّام ليجد نفسه يندمج في الحياة هناك”مع ذلك ما فتئ يؤرّقه إحساسه بالحاجة إلى أن يتحرّك على راحته،أن ينضمّ إلى الحياة و يستمتع بها .”ص45

“ووحده العمل النّضالي ظلّ يمنحه الفرصة في أن يعود هو نفسه،ويمكّنه من استعادة توازنه.وإن ظهر مرّات عديدة كارها للحرب لما تجلبه معها من خيبات وأحزان و مآسي.كان ذلك يحصل حين يغلبه اليأس.وتضاعف هذا الشّعور لمّا بلغه خبر وفاة أمّه.”ص46

بين الحلم والواقع،والماضي والحاضر تتأرجح أحداث الرّواية ليجد القارئ نفسه تارة هنا وتارة هناك،تكثيف لعرض الأحداث في بنية سرديّة ذات طابع حداثيّ ومتفرّد.

الوطن والمواطنة في جزائر الأمس،وجزائر اليوم…”علي هادف” المناضل الّذي فقد نفسه يوم قرّر أن يخون،وسواء أقرّ بذلك أم لا فإنّ ذاكرته الّتي لم تستطع أن تنسى توجعه.بعد الاستقلال استطاع البطل أن يتفلّت من ماضيه غير المشرّف،وليس ذلك فقط بل ارتبط تزوّج،وأصبح له نفوذ وكلمة مسموعة.”علي هادف” الآن يشغل منصب رئيس بلديّة في ولاية مستغانم،يأمر وينهي…ويحاضر للأجيال عن حب الوطن والإخلاص له.”علي هادف”في الوقت نفسه يستغل منصبه لإصمات نزواته الحيوانيّة الّتي تنتابه بين الفينة والأخرى،ويغلق باب مكتبه ويبتز ويساوم.”علي هادف” يحاول تدنيس اسم أحد رفقاء النّضال باستغلال حاجة ابنته للعمل.

“هل حين تقرّب من زينة،وحاول إغواءها والإيقاع بها،كان يحدوه الانتقام منها؟”ص98

“كان قد راهن على سقوطها،والّذي يعني سقوط والدها بالتعدّي.لكن ما حدث أنّه سقط هو كرّة اخرى.لقد غلبته لمّا استماتت في الدّفاع عن عفّتها.فعلت ماهو جدير بها.كسرته وعرّته كما فعل والدها من قبل أمام نفسه و أمام الآخرين.لقّنته هي أيضا الدّرس نفسه.وأكّدت له أنّ البشر صنفان:صنف يستمر في الدّفاع عن شرفه إلى آخر لحظة،فلا يرضخ.وصنف ساقط ساقط بطبعه.سبق و تعفّر وجهه.وهو يواصل سقوطه ما استمرّ في الحياة.”ص99

أظنّ بأنّ أكثر ما جذبني في هذه الرّواية هو عدم وضوحها،رواية تفرض على القارئ بأن يتأنّى أمامها وقبل إطلاق أيّ حكم عليها لابدّ أن يتعب ليفهم ما جاء فيها،سرد يزاوج بين النّقائض،يقدّم التّاريخ لكن بعيدا عن التّأريخ.

“في وقت شديد الحساسيّة ،وفي ظروف لا يعلمها إلّا الله،قد تخطئ.وأحيانا يستدعي الخطأ أخطاء أخرى تتناسل باطّراد،لتجد نفسك في الأخير أمام حصيلة معتبرة من الأفعال والجرائم الّتي تدينك،فلا تعرف كيف تدفع بها عنك.ومع ذلك لا يلبث هذا الشّعور أن يسقط عندما لا يصل بصاحبه إلى أقصى درجات النّدم.”ص109

“هذا الشّعب عاطفيّ بامتياز.فبقدر ما يحقد على الطّغاة،بقدر ما يكون مستعدّا ليغفر لهم عن طيب خاطر.”ص111

“كم يبدو غريبا كلّما تذكر اللّيلة الثّانية من مظاهرات 17 أكتوبر (تشرين الأوّل)من عام 1961،شعر أنّ هناك ما لا يمكن فهمه،ووجد نفسه غير قادر على استيعاب ما وقع معه.مصرّا على أنّ في الأمر ما يتجاوز إدراكه.”ص114

“محمّد جعفر” اختار أن يسرد أحداث الرّواية بلسانه،وغلّب الزّمن الماضي ما بدا متناسبا جدّا مع النّسق السّردي الّذي اعتمده،لكن ذلك لا يعني تغييبه للزّمن المضارع والّذي كان له دلالة معيّنة تمثّلت في استمراريّة الأحداث.خيانة “علي هادف” للوطن في الثّورة،استمرت بعد الاستقلال،هو اختار أن يقف في صف الأقوى،واختار أن ينتقم بطريقته من أولئك الّذين يدرك جيّدا بأنّهم على الرّغم ممّا فيهم وعليهم لن يغفروا له أخطاءه مهما فعل.لذلك البطل اختار أن يستمر على ما كان عليه،متحجّجا بأنّه لا خيار آخر أمامه.

“يكفيه أن يمرّر يده على الآثار الّتي زرعوها فيه على طول جسده،فيتذكّر بشاعة ما تعرّض له.”ص120

“وحده من تعرّض للتّعذيب،ووحده من يحمل كل هذه النّدوب و الجراح.كما لا أحد قويّ إلى ما لا نهاية.كلّنا ضعفاء أمام قوى أعتى منّا.وما مورس عليه وعايشه لم يعرفه ولم يجربه سواه،وأمّا الآخرون الذين سيرمونه بالاحتقار،والّين سيحكمون عليه اليوم وغدا فإنّهم لم يعانوا،ولن يفهوا ما حصل معه.وإن كان لا يعني هذا أنّه لا يشعر بالذّنب،وبفداحة الخيانة.لكن لا مجال الخوف أكبر.”ص120

3-شخصيّة الكاتب:

يتجلّى للقارئ من خلال النّص بأنّ الكاتب يقرأ كما لا يفعل الكثيرون،كاتب مجيد يدرك جيّدا عمّا يتحدّث ولمن يكتب ولأجل ماذا يكتب.التزامه بقضايا عصره ووطنه أيضا أمر آخر يحسب له في حين تجد هؤلاء و أولئك يتفلّتون من الأمر ويفضلون الحديث عن “الجن و السّحر والشّياطين”بدل احترام عقل القارئ وتقديم مادّة تستحق أن تقرأ،وتستحق أن نصرف عليها نقودنا.

هناك أمر آخر أيضا يحسب للكاتب،وهو قدرته على الغوص في النّفس البشريّة وتحليل التّناقض الّذي وارد جدّ أن تقع فيه.أصوات الماضي غير المرغوب فيه،وعبثيّة الحاضر الباهت،واندماج الاضطرابات بالتّوازن،والحلم بالواقع،والغياب بالحضور.

“ما يريده لحياته الآن أن تستمر بعيدا عن الإحباط،وإذ ما كانت هناك ضريبة معقولة،فسيقبل بها.شرط أن تتأجّل إلى حين يسوّي جميع مشاكله العالقة.”ص124

“عادت معه الذّكريات فكأنّها فخاخ لعينة،لا تكتفي ولا تهادن رغم كل القروح والجراح الّتي تسبّبت له بها.تقسو هذه المرّة.تجلده وتعذبه،ليصير الحمل الثّقيل الّذي يتجشّمه يرهق جسده أضعافا.”ص124

هناك أمور و أحداث أخرى،لم أرغب بحرقها وأترك للقارئ اكتشافها بمفرده،وإن كنت أنا أو غيري استعرضنا ما جاء في الرّواية فأكيد ذلك لا يعني بأنّا نحن الّذين كتبناها، وبالتّالي تبقى أمور كثيرة وحده الكاتب يدرك جيّدا دلالاتها الخفيّة،ومعانيها البعيدة.

“عليه أن يذيقهم الويل حتّى لا يفكروا في العودة ثانية.يجب دحرهم جميعا.وهم إن لم يموتوا،فسيعيشون معطوبين كسحانا

مبتوري الأذرع و الأعضاء.كما إذا لم تسعهم الزّنازين والسّجون،يمكن تصفيتهم والتخلّص منهم.”ص154

“لم يكن هيّنا ما حصل.مع ذلك غلب التّعتيم،وتكرّس كطابع عام بعدما تواطأت قوى الأمن و المخابرات مع الإعلام الفرنسيّ

إلّا صحيفة الأزمنة الحديثة الّتي تصدر بباريس،فقد كانت تجربة جريئة حين شبّهت حال المعتقلين باليهود في عهد حكومة فيشي.”ص156

“أمّا ما حصل بعد يومين من الاعتقال،فقد بدا متوقّعا.كدّس الموقوفون كيفما اتفق في شاحنات وجدت بانتظارهم.وعاجلتهم الخشية،وخافوا أن يودعوا محتشدات سان موريس لوزاك في لردوان المعروفة بقسوتها،لكنّهم شحنوا كالخراف مقيّدي الأيدي والأرجل داخل مستودعات معتّمة،تحبس الأنفاس.وسفّروا قصرا إلى السّجون و المعتقلات في الجزائر على ظهر سفينة صدئة منخورة تسير إلى التلف ومعرّضة في أيّ لحظة للغرق،تحمل اسم روبيبليكان.”ص158

………..

هامش:

– مؤلّف الرّواية:”محمّد جعفر”.روائي و قاص من الجزائر./أعماله:هذيان نواقيس القيامة.(رواية)، مزامير الحجر(رواية)،ابتكار الألم (مجموعة قصصيّة).

الطّبعة الأولى:كانون الأوّل/ديسمبر2018-1440ه./الدّار العربيّة ناشرون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى