الطودُ الشامخُ
خالد رمضان | تربوي مصري – صلالة – سلطنة عمان
من ذاك الطودُ الشامخُ، والجبلُ الأشمّ الذي لا تُزعزِعُه العواصِفُ والمِحنُ؟ إنّه الأبُ… الأبُ هو برُّ الأمانِ لسفينةِ الأسرةِ في خِضمِّ الأمواجِ الثائرِة المهلكةِ، وهو حِصنُ الحنانِ من غوائلِ الزمنِ، وجرائرِ الأيامِ.
والله لو حاولنا نظمَ عقودِ درٍّ من مفرداتِ اللغةِ العربيةِ، أو الغوصَ في بحورِ البيانِ لننسجَ أبهى كلماتِ الشكرِ، ما وفيناه حقّه، ولا نصيفَه… تأمّلْ يا بُنيّ قسماتِ وجهِ أبيكَ، وتلكَ التجاعيدَ المحفورةَ عليه، فما هي إلاّ سنواتُ عمرِه التي أنفقها كدّا وهدّا لتقِفَ أنت أمام الناسِ مرفوعَ الهامةِ مستقيمَ القامة… ذلك الرجلُ الذي تركَ متاعَ الحياةِ الدنيا لتكونَ أنتَ متاعَه، ومتعتَه، ومَنْ هانت عليه نفسُه، وزهِدَ في إسعادِها لتهنَأَ أنت بعيشِك.
يا بُنيّ: هلّا نظرْتَ إلى ثيابِ أبيك، أو نعالِه؟ فقد تجدُها كما هي لم تتغيرْ منذُ أعوامٍ طوال، فهو ينسى نفسَه، ويذكرُك أنت. الأب هو الأبُ ولو تغيّرَ عليه أبناؤه، وجفوه وملّوه يظل يحنو عليهم، ولا يفيضُ قلبُه إلا حبّا لهم…يعقوبُ عليه السلامُ رُغمَ قسوةِ أبنائه عليه، وجفائهم له، وبُغضِهم لأخيهم يخاطبُهم بحنانِ الأبِ فيقولُ: “يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسفَ وأخيه”، ويقول: “يابني لا تدخلوا من بابٍ واحدٍ وادخلوا من أبوابٍ متفرّقة “
أيُّ رحمةٍ هذه التي غمرت نبيَّ الله نوحًا التي جعلته ينادي ابنَه الكافرَ به وبإلهِهِ فيقول له: “يابُني اركبْ معنا”
بل ويُناجي ربّه فيقولُ “ربّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحقّ وأنت أحكم الحاكمين”
انظرْ إلى ذلك الأبِ الذي حملَ ابنَهُ المتوفّى وهو في المهدِ، وهو في طريقِه ليدفِنَه خلع قميصَه وغطّى به ابنَه ليحميَهُ من حرارةِ الشمسِ!.. يا ألله!.. أيُّ رحمةٍ هذه؟!.. والله لنعلُ أبيك عند الدارِ سعادة الدنيا والآخرةِ.إنّ صوتُ أبيك في البيتِ كنزٌ ما بعده كنز.
يا بُني: ادنُ من أبيك، تحدّثْ إليه، ابتسمْ له واسألْه عن حاله، دقّقْ النظرَ فيه فالنظرُ إلى الوالدين عبادةٌ… قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للولدِ: “أنت ومالُك لأبيك” يابُنيّ: لا تجلسْ وأبوك واقفٌ، ولا تقاطعْه وهو يتحدّثُ، ولا تسبقْ قدمُك قدمَه وأنت تسيرُ معه.
قال لي أحدُ أصدقائي لقد ذهبتُ إلى قبرِ أبي في منتصفِ الليلِ أحدّثُه وأنا أنتحِبُ نحيبًا يا أبي: كنتَ على صوابٍ وأنا على خطأ ليتني سمعتُ نصحَك يا أبي… اظفرْ يابني بكل ثانيةٍ مع أبيك، متّعْ عينيك برؤيتِه، أطربْ أذنيك بسماعِ صوتِه، تحسّسْ دف ٔ يديه فسعادةُ الدنيا والآخرةِ تحت قدميه.
وحين ناداني أبي… فورً تغير مذهبي
أيقنتُ أني واجدٌ… كلّ السعادة يا أبي
يا بهجةَ العمر المديد.. وبلسم القلب الأبي
اعوج عودك يا أبي… حتى توفّرَ مطلبي
أفنيتَ عمرَك والدي… حتى تحققَ مأربي
قد كنتَ حصنًا حانيًا… مثل الفناء الأرحبِ
تغدو وتمسي مانحا… فضلَ العليّ الأوهبِ
ما كنتَ يوما طالبا… ردّ الجميلِ الأعذبِ.
وفي ختامِ خاطرتي أدعو الله تعالى أن يحفظَ آباءنا، وأن يرزقهم الصحةَ والعافية، وأن يرحم من قد مات منهم.