أدب

رقية

قصة قصيرة

بقلم: جميل كريم لفتة
في تلك السنين الخاوية، حيثُ كان البؤسُ معلَّقا على جميع الأبواء، كانت جارتي أمُّ رقية لها ثلاثة أطفال كرحيق الزهر، تعصر قلبها كلّ يوم لتجمعَ لقمةَ العيش من هنا وهناك.
وحدث ذات مرة أن أرسلت رقية (ابنتها الكبرى) إلى (محلّ البركات) لشراء كيس معجون بألفين ، وحنَّتْ عليها (بربع) لشراء الحلوى، مضت الدقائق والساعات ورقية لم تعد..
بدأت الامُّ تقلقُ وتضربُ الأخماس بالأسداس، وفي لحظتها سمعتْ الباب يُطرق فركضت إليه.
مَن الطارق.. ؟
-أنا صاحبُ محل البركات.
– أهلاً وسهلاً بالأخ الغيور …
_ أستميحك عذراً سيدتي هلّا قبَلتي لقمةَ الأموات لقراءة الفاتحة والدعاء..
_ أم رقية بكلِّ سرور … ثواب واصل إن شاء الله …
أغلقت الباب وفتحتْ القدرَ لترى ماذا يوجد فيه؟ آه… إنها مقلوبة (محشاة) باللحم والأرز والباذنجان والطماطم والبطاطا.. يا له من شهي ! ثم تذكرتْ بأنها نسِيَت أن تسأل صاحبَ محلِّ البركات عن رقية. وضعت القدر في موضع الإطعام.. والرائحة تتسابق لإيقاظ النيام ..
_ الأم: أين الحسن؟! أين الحسين؟ هلموا.. هلموا.. قبل أن يصابَ الطعامُ بنزلة البرد.. أقبلوا مسرعين … وجلسوا مجلس المفترسين.. وسرعان ما جال في خاطرهم رقية..
_ حسن: أمي أين رقية ؟!
_ حسين: صحيح أين رقية ؟!
_ الأمُّ : أرسلتُ رقية (لمحلّ البركات) ولم تعد إلى الآن! تعالت الأصوات. هيا.. هيا يا أمي أقلبي ما في القدر في الصينية
_ الأم: ورقية ؟…
_ حسن.. حسين: لا عليك ستأتي .
ما إن انقلب القدر حتى تناثرت الأشلاء. اللحم في العيون ساطع، والعقل والقلب خانع، والأيادي تسلّلتْ بحذر.. والأم تنظرُ إلى حال الأولاد وهم يتضوّرون جوعاً
_ حسن: أمي هنالك شيءٌ غريبٌ حيثُ قطعُ اللحمِ تتحرّك..
_ الأم: كفَّ عن هذا الهراء..
_ حسين: بالله عليك يا أمي انظري.. إنها تتحرّك. أمعنت النظر جيدا ثم قالت: لقد صدقتم قطع اللحم تتحرك، ليس هذا فحسب بل تنطق، انصتوا معي لنميّز صوتَ مَن؟ وإذا بصوت ناعم حزين… أمي.. أخوتي.. أنا رقية المظلومة.. أنا طفلة لم أكمل أربع سنوات.. أنا البريئة المغتصبة.. أنا القتيلة العارية.. أنا المحروقة في أكوام الزبالة.. وما زالت تردّدُ أنا.. أنا … حتى أجهش الكل بالبكاء..
وإذا بالبابُ يُطرق مرةً أخرى..
_ الأم : مَن يرحمك الله ؟!
_ أنا صاحب البركات هل الطعام طيّب؟
_ رقية : إنّه القاتل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى