حين توقف الحلم

قصة: عبدالله علي أبو طالب عليوة| مصر
في السادسة صباحًا كان صوت عقارب الساعة يرنّ في رأسه كنبضٍ مملّ. نزل إلى الشارع استقل الحافلة كعادته نفس المقعد نفس الوجوه الشاحبة نفس الطريق الممتد كخيطٍ بلا لون. رجلٌ في مطلع الأربعينات لا يميّزه شيء سوى أنه تعلّم كيف يُخفي الملل خلف صمتٍ طويل.
في أحد الصباحات خطرت له فكرة:
لماذا لا أقضي هذه الساعتين في العيش داخل خيالي؟
أغمض عينيه فرأى بابًا لا يراه أحد سواه. دخله فإذا بمدينة أخرى تمتد أمامه. في شوارعها صار ثريًا تضيء له القصور وفي ميادينها صار وزيرًا يهابه الناس وفي مسارحها صار أديبًا كبيرًا تُرفع له الجوائز وفي قاعاتها صار شاعرًا يصفق له الجمهور.
كان يخرج من تلك المدينة مع أول محطة يعود إلى رمادية الواقع لكنه صار ينتظر الرحلة التالية لا ليستقل الحافلة بل ليعبر البوابة من جديد.
أحب مدينته السرية أكثر من بيته وعمله. هناك الهواء أنقى والوجوه أبهى والحياة أكثر عدلًا. صار الناس من حوله مجرد أجساد أما هو فكان يعيش بين أمجادٍ نسجها وحده.
حتى جاء مساء ثقيل دخل فيه المدينة نفسها لكنه وجد جدارًا جديدًا لم يكن موجودًا من قبل. جدار كتب عليه بخطٍ غامض:
“وماذا بعد؟”
ارتبك. لأول مرة يتردد صدى السؤال في داخله:
وماذا لو قضيت عمري كله هكذا؟ أميرًا في خيالي أو مجهولًا في دنيا الناس؟
أليست هذه الدنيا كلها بخيالها وواقعها قصيرة؟
رأى حينها أن وراء مدينة الخيال ومدينة الواقع مدينة ثالثة لا تُبنى بالحجارة ولا تنهدم بالقصف لا يدخلها إلا من هيّأ نفسه: مدينة الآخرة. هناك لا مال ولا منصب ولا شهرة هناك الحقيقة وحدها.
فتح عينيه ببطء. رأى وجوه الركاب من حوله العيون التائهة التعب صمت المقاعد. لأول مرة شعر أنهم جميعًا مثله يبحثون عن مدينة أخرى. ابتسم ابتسامة صغيرة لم تكن ابتسامة غني ولا وزير ولا أديب بل ابتسامة رجلٍ أدرك للتو أن عليه أن يبدأ رحلته الحقيقية.
عندما توقفت الحافلة عند محطته نهض واقفًا. تردّد لحظة قبل أن ينزل كأن قدميه تسألان:
هل ستعود إلى مدينة الخيال غدًا… أم تبدأ من هنا؟
ولم يُجب.



