أدب

قراءة في رواية “عيد ميلاد ميت” للروائي المصري أحمد طايل

سيد علي رأس العين|كاتب من الجزائر

الكتابة السردية أو الحكائية عند الأستاذ أحمد طايل ليست شكلا من أشكال الترفيه أو الترف الأدبي أو الثقافي أو ما شابه ذلك وإنما هي غايات اجتماعية ورسائل تربوية وقيم إنسانية نلمساها له في أكثر من عمل سردي أو أدبي مما جادت به قريحته الطافحة بكل وسائل الكتابة الإبداعية وآلياتها ومن يتأمل كتاباته على العموم قراءةً وتفحصًا يلحظ أن الرجل شخصية محافظة على الأصالة لا ينفك عبق الزمن الجميل يضوع من كل كلمة يخطها في عمل من أعماله السردية.

دلالة العتبة السيميائية:

هل يُحتفَلُ بعيد ميلاد الموتى؟

بالعودة إلى رواية “عيد ميلاد ميت” التي تقع في 112 صفحة تتضمن في طياتها خمسة عناوين منها هذا العنوان وهو آخرها وهو عنوان صادمٌ ورابكٌ من جهة المعنى والدلالة ومن المبنى فمن جهة المبنى اللغوي فهو مركب من مضاف (عيد) ومضاف إليه (ميلاد) النكرة الذي احتاج هو الآخر إلى مضاف إليه آخر (ميت) لتوضيح معنى المضاف إليه(ميلاد) لذلك تعدد المضاف إليه لعل العنوان ينجلي غموضه بعض الشي ولا ينجلي هذا الغموض إلا بالغوص في متن الرواية السردي ..
أما من جهة المعنى والدلالة فالعنوان له دلالة سيميائية عميقة فهو ليس مجرد حفيد (خالد البدوي) خطرَ له أن يحتفل بعيد ميلاد (الباشا) جده المتوفى فلقد جرت العادة أن يُحتفل بعيد ميلاد الأحياء لا الأموات لكن الرواية في حد ذاتها مرافعة من أجل إحياء ما حسبه كثير من الناس قد عفا واندثر من عادات وتقاليد وحياة كانت نقية بنمطها العفوي والطبيعي لذلك استبق الأستاذ أحمد طايل المتلقي إلى تلخيص الرواية بالديباجة البديعة التي رصّع بها روايته في المقدمة بقوله (هناك من البشر من يظل حيّا لعقود بعيدة المدى، المواقف الجادة والمؤثرة هي أساس البقاء فلنبحث عما يجعلها أحياء، هناك أحياء فوق الأرص أموات وهناك أموات تحت الأرض أحياء)

فلسفة أحمد طايل من خلال روايته

إن الجد المتوفى الذي يحتفل الحفيد بعيد ميلاده هو رمزية للزمن الذي ولى بزمانه ومكانه وعبقه التاريخي والأنتربولوجي الآخاذ الذي يتجشم في حناياه كل ما هو جميل على الرغم من الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كان يعيش فيها المصريون بمختلف شرائحهم وفيئآتهم الثقافية والاجتماعية وعلى الرغم من الفوارق لم يرد الكاتب أحمد طايل الذي يحمل فلسفة مختلفة في الحياة أن يععرّي عيوب تلك الحقبة التي كان يحكمها الباشاوات والأفندية والإقطاعيون لأن الكاتب كان ينظر نظرة متسامية عن التفاصيل والدقائق التي هي من ضمن أنماط الحياة الطبيعية لأي إنسان لذلك أراد الأستاذ طايل أن يذيب تلك الفوارق التي من شأنها أن تخدش طهر الحياة البدوية والمدنية على حد سواء كما جعل “النيل” شريان حياة المصريين النابض بالوجود والجمال لأن الحياة من وجهة نظره المعرفية ليست صراعا وتناحرا من أجل البقاء وكسب “لقمة العيش” بل هي أبعد من ذلك فلها جوانب جميلة خفية لا تُبصر بعيون سطحية أو تُرى من خلال نظّارات سوداء أو رمادية موغلة في القبح والتسطيح إذن فالحياة كما يصورها الاستاذ أحمد هي تلك الحياة المصرية العذراء التي تستمد وجودها من الحضارة الفرعونية الاصيلة وتستقي استمراريتها من عذوبة ماء النيل النقي الذي يعد حالة وجودية ذات خصوصية متفردة لدى المصريين كافة بمختلف أطيافهم الاجتماعية والثقافية لذلك كانت “عيد ميلاد ميلاد” صرخة مدوية إلى الضمير الجمعي الإنساني عامة والمصري خاصة من اجل إعادة بعث كل ما هو أصيل ذو أريج تاريخي كان أساسا بُنيت عليه أركان الحياة المعاصرة اليوم.

الوصف الزمكاني في الرواية

لا يمكن أن نتحدث عن الرواية من منظور نقدي دون التنويه بعنصر الوصف في الرواية غير ان ما يميز أسلوب أحمد طايل يلمس إبداعا متقطع النظير فهو يهتم بدقائق الأمكنة وأزمنتها وهذا من كمال العمل السردي دون إسهاب يبعث على تبرّم المتلقي بل هو إطناب ذو فائدة من وجهة نظر بيانية وبلاغية حرصا منه على التوكيد والإحاطة بعناصر القصة وصفا وتقديما بدءا بالزمان والمكان وانتهاءً عند الحدث والشخوص المتعددة في الرواية فها هو ذا يصف محطة القطار بالقليوبية في الفصل الاول المعنون ب(مكي سكة) التي استهلها بوصف زماني (اليوم من أيام ديسمبر الشمس أعلنت رحيلها قبل موعدها وهو كناية عن تكدس زماني تفرضه الأحداث والأمكنة ليتناول المحطة كنموذج مكاني (مجرد رصيف بطول لا يتجاوز العشرة أمتار من كل جانب بأرائك خشبية مهترئة لو تم الجلوس عليها ببعض القوة ربما تسقط بالجالس عليها حجرة ناظر المحطة حجرة صغيرة يعمل بها موظف يعمل بالسابعة مساء ويغادر بالساعة السابعة صباحا…)
في الفصل الأساس (حفيد الباشا) إلى الفصل الاخير الموالي (عيد ميلاد الباشا) لا يعتمد على الوصف كثيرا بل تجد الرواية تميل إلى التكثيف في الاحداث دون إطناب في الوصف فنجد أن حركة الوصف تسير بصورة عفوية بما تقتضيه الكتابة السردية الحداثية فالحبكة في كثير من الأحيان لا تسير في خط مستقيم نظرا إلى التداخل الزمني والمكاني وتقنية الاسترجاع بين الحاضر والماضي في صورة متناغمة ومتماوجة تتخلها عناصر التشويق التي تثير في نفسية المتلقي نوعا من الارتياح في مواصلة القراءة لمعرفة المزيد من تشابك الأحداث وتواتر الحبكة بصورة مذهلة تجعل القارىء يتفاعل مع تلك الحقبة الزمنية ويتعايش معها بكل عفوية وتضامن وحنين وما ينبغي الإشارة إليه ختاما هو تصوير الشخصيات بصورة مثالية ومغايرة لما هو مسموع عنها في الواقع فما هو متعارف أن “الباشا” هو رمزية للتعالي والغرور والسطوة والبطش في غالب الأحيان لكن الكاتب في روايته قدّم لنا شخصية غير نمطية عن الباشا إذ صوّرها كرمزية نموذجية للطيبة وحسن الخلق مع الناس جميعا دون ذكر أي فوارق طبقية أو اجتماعية او ثقافية شخصية محبوبة عند (الغَلابة) من الناس شخصية تعتبر الجانب المادي مجرد وسيلة تعين على الحياة ومشاقها وتناقضاتها لذلك عمد الكاتب إلى تصوير شخصية “خالد” كنموذج إيجابي يحافظ على سيرة جده من خلال “السرايا” الموروثة التي ستبقى قلعة مفتوحة لفعل الخير ومساعدة الناس المحتاجين من أهل المنطقة وتوفير أساسيات الحياة لهم من تعليم وعلاج وترفيه وما إلى ذلك..
رواية “عيد ميلاد ميت ” هي مفارقة جميلة عن الحياة المثالية التي من خلالها يتعايش الناس فيما بينهم دون فوارق اجتماعية أو ثقافية وهي دعوة إنسانية من الكاتب الذي يحمل في مخيلته الخصبة وفكره النقي كل مواصفات الحياة الجميلة التي يجب ان نحياها دون تعقيد

اللغة والأسلوب:

أسلوب الكاتب يجنح إلى البساطة في عمومه أما اللغة في هذه الرواية فهي مسبوكة بعبارات بسيطة لا معاظلة فيها لأنها الأنسب إلى الكتابة الحداثية وملاءمتها للفكرة المطروحة ومع ذلك كانت جميلة سلسة من غير تكلف حافلة بشتى صنوف الرمز والمجاز والاستعارات من محسنات لفظية ومعنوية (استعارات تشابيه كنايات …الخ) لذلك كثيرا ما نصادف انزياحات لغوية وبلاغية وسردية كشفت كثيرا عما تستبطنه الرواية من جماليات في الشكل والمضمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى