أدب

بنية التجاوز في القصيدة التسعينية – قراءة في (تجييل الكتابة الشعرية في العراق) للناقد الدكتور سعيد حميد الوناس

أ. د. عبد الكاظم جبر
ناقد عراقيّ وأكاديمي | العراق جامعة القادسية

إن مقولة التجاوز ليست مقولة جديدة، فهي فكرة تبنتها الأجيال الشعرية المتعاقية، ولا سيما في العراق، وقد انبرى الناقد العراقي الطُّلعة الدكتور سعيد حميد للتصدي لأهم حقبة تاريخية وأخطرها، ألا وهي حقبة التسعينيات، حقبة المعاناة والصراع والانبثاق الشعري المدهش، عبر منجزه النقدي(تجييل الكتابة الشعرية في العراق بين التنظير والإجراء- دراسة في الجيل التسعينيّ)، في حين لم ينل هذا الجيل حظه من التتبع والإخلاص في تقصي فرادته وتميزه، ولم يفتأ الدكتور سعيد في ملاحقة قصائد هذا الجيل في المجاميع الشعرية المطبوعة، أو الكراريس المستنسخة، والمجلات، وفي المقاهي والملتقيات، وقد آمن بأن قصيدة الشعر – التي هي مشروع هذا الجيل- ليست فكرة تاريخية، بل هو فكرة إبداعية لا يحدها الزمان أو المكان أو الأشخاص، بل هي القدرة على الإبداع المباين للمألوف المكتنز بالرؤى. ولا يفوتنا القول إن كل جيل جديد يرى نفسه جيلًا انتهت إليه مقالد الشعر، وأنه تجاوز من سبقه بمراحل، بدءًا بجيل الرواد حتى جيل التسعينيين، فالرواد كانوا يعدّون أنفسهم جيل الانعتاق عبر تخطي الرواسم العروضية، والصياغات اللغوية المألوفة، وهذا ما تطلب منهم حداثة وعي، ومن ثّم حداثة نص وحدثة تلقي، وما أن جاء الستينيون حتى عبروا عن ضيقهم ببدائية القصيدة الحرة ونمطيتها، فارتموا في خضم الحياة الثقافية العراقية، وحاولوا أن يقولوا شيئًا جديدًا حيًّا وصاخبًا، وهذا ما سمّاه الشاعر والناقد الستيني سامي مهدي (الموجة الصاخبة)، وهو كتاب نقدي، فيه عرض لأهم خصائص هذا الجيل وأهم شعرائه، وهو ما سماه أيضًا غريمه الشاعر والناقد فاضل العزاوي (الروح الحيّة)، إذ كانت نصوص هذا الجيل نصوصًا موحية أكثر منها بلاغية أو فنية، وليست القصيدة السبعينية ببعيدة عن هذه الموجة أو هذه الروح، وإن سعت إلى توسيع فكرة الشعر وارتياد مناطق لم تطأها قرائح الشعراء؛ بحثًا عما هو جميل، ومن هنا كانت قصائدهم قصائد مركّبة، بحسب وصف خزعل الماجدي، وكذلك فعل الثمانينيون، الذين كثيرًا ما ارتادوا مساحات ما يسمى بقصيدة النثر، والتمسوها وتعلقوا بأسبابها، وربما ظنوا أن الوزن يثقل القصيدة، وآمنوا بنجاعة النص المفتوح. فكان لا بدّ من موجة جديدة أكثر أصالة ومعاصرة على مستوى التنظير والإجراء، فكانت، إذن، قصيدة الشعر، وهو المشروع الذي وضعنا الناقد الدكتور بإزائه.


ولا مرية في أن تعدد أشكال الشعر عند التسعينيين مرتبط بالشرط الثقافي والاقتصادي، كما يرى غير ناقد، ويبدو أن سبب ذلك لمحاولة ردم الهوّة أو الانقطاع بين هذا الجيل وجيل الرواد، فعاودوا كتابة الشعر الموزون، لأنهم – كما يرى الناقد الدكتور سعيد- وجدوا مناطق فراغ لم تملأ بعدُ، وقد يكون الرجوع إلى الأشكال القديمة أكثر إلتصاقًا بجمهور التلقي ومعاناته. وقد تفشى بين أجيال الشعر عدم الاعتراف بأبوة الجيل السابق للجيل اللاحق، وراح الناقد يتابع آراء الشعراء التسعينيين، بصورة ميدانية لم نألفها عند غيره ممن درس شعر هذا الجيل، وقد انتهى بعد ذلك إلى أن جيلًا من النقاد التسعينيين ظلوا على ما كان عليه النقاد الذين تقدموهم، من إزراء بالنتاج الجديد، بدعوى كونه ردة فعل ومحاولة يائسة لإيجاد متنفس، يراد من ذلك خلق معجزة داخل دائرة الوهم. وهذا الإزاء أو التوهين، كما يرى، ما هو إلا محاولة لتذويب الملامح الجديدة للكائن الجديد وصهرها في بوتقة التضييع والتهميش، غير أن كل ذلك لم يقف حائلًا دون مشروع القصيدة الجديدة، سعيًا للتجاوز.واشتغل الناقد بصورة غير مسبوقة على بيان المهيمنات التي تجاوزت نصوص التسعينيين الإجيال التي تقدمتها، ورأى أنها تتوزع في مستويين، الأول: مستوى الأداء، والآخر مستوى البناء، أما مهيمنات الأداء فهي أن كثيرًا من نصوص قصائد هذا الجيل يعتمرها (الفضاء الضدي)، أو ما يسمى عند غيره بالتضاد البنيوي، وهو عصب المفارقة النافذة، التي هي عصب الإبداع، ومن مهيمنات هذا المستوى (تمجيد السؤال)، فقصائد شعراء هذا الجيل (جرّة أسئلة)، ففيها الكثير من التشفير، ذلك التشفير الذي يتطلب متلقيًا بمستوى النص يحاوله ولا ينكص دونه، وأشار الناقد إلى أن ثمة (خطابًا معرفيًّا) مهيمنًا يسعى إلى مسارب التمويه، ويميل بصاحبه إلى ترشيق نصه، وحقنه بتعزيزات جديدة، تنفتح على قراءات متعددة، وتهدف إلى البعد عن النمذجة والنمطية، ومن المهيمنات الأدائية الأخرى حضور النصوص (السير ذاتية)، في جسد القصيدة التسعينية بصورة مثيرة التي منحتها دمًا عبيطًا، إذ أحداث الطفولة، والمغامرات العاطفية والأحداث الخاصة وغيرها تقترب بالنص من هموم متلقيه، غير منفصلة به عن سياقها الفني. و(التغريب) الذي هو نوع من المفارقة التي لجأ إليها التسعينيون؛ واحد من المهيمنات أيضًا، ويقضي بعوالم لا وجود لها، لكن يفسر بقوانين العقل، وكل ذلك من أجل مخادعة الرقيب ومقصّه، وكان هذا التغريب أو الغرائبية صدى للخوف والقهر، فحاول الشاعر عبرها اصطياد اللحظة المدهشة بعيدًا عن السطحية الساذجة. وكان (الهم اليومي) واحدًا من مهيمنات هذا المستوى، إذ الشعر لم يفارق منطقة الحرب والجوع والفقر والاستبداد، وكان الرمز والاسطورة وسيلتيه للتمويه المدهش.
أما مهيمنات البناء الشعري، فكانت (قصيدة الشعر)، تلك القصيدة التي تواضع عليها أصحابها، وكانت لها أسبابها الموضوعية، وأن أكثر الأشكال استجابةً لهذا الهدف المنشود؛ هي قصيدة الشطرين، لما لها من تاريخ باذخ مجيد عند المتلقي، مع تطوير جهازها الفني بعيدًا عن التقليد، بمعنى أنها انطلقت من أرضية ذائقة جمهور التلقي، وتابع الناقد مشروع القصيدة، منذ ما صدر عنها في (مجلة أشرعة) سنة 1997م، مرورًا بـ (رابطة الرصافة للشعراء الشباب)، و(البيان الشعري)، وذكر أن من أهم مهيمنات هذه القصيدة التي تجاوزت وتخطت أجيال الشعر في العراق؛ أنها تعتمد على الصورة الشعرية المبنية على المفارقات الدلالية والكنائية، وترف اللغة بحساسية جديدة، وتوتير مدهش. وتابع بعض التجارب في خروجها الوزني، في عدد التفعيلات وأشكال القوافي، ورأى أن ذلك ما يعطي القصيدة (موسيقى مكثفة)، وينضم إلى ذلك طريقة توزيع البيت، بوصفه وسيلة تكثيف الإيقاع الداخلي. ومن مهيمنات البناء عنده (مغادرة أرض الصورة للانهماك في الرؤية)، ويعني بها مغادرة الأدوات البلاغية القديمة إلى لغة محملة بالرؤية، حيث عالم أوسع، بيد أن النصوص لا تخلو من صور جزئية تدعم الرؤية الكلية، عبر تكثيف اللغة والدلالات، بنحوٍ يثير الأسئلة وكسر أفق التلقي. ومن هذه المهيمنات التي نوّه بها الناقد (خاصية التنامي والتكثيف في البنية الحلزونية)، إذ أراد شعراء قصيدة الشعر لهذه البنية أن تتكثف لتمطر، عبر كم دلالي ينطوي تحت ثائية (الضغط والانفتاح). ومن خصائص قصائد هذا الجيل (التماسك النصي)، وهم بذلك يحاولون أن يجعلوا قصائدهم خيطًا متينًا تنتظم عبر حباته (الضرباتُ) المتلاحقة، وعنى بالضربات مناطق الإدهاش في جسد القصيدة. ومن المهيمنات البنائية أيضًا (التجاوز في علاقة الانزياح وعقبة التغريض)، إذ بدا الانزياح مرتكز القصيدة الجوهري في شعر التسعينيين، بغية إحداث اللذة، وقد انطلق الشعراء بالانزياح إلى مديات وأغراض أرحب، عبر الجزئي الضيق. وبذا يكون قد وضع يدنا الناقد سعيد حميد على أهم المهيمنات المضمونية والفنية التي تعتمر نصوص هذا الجيل الفذ، لتعبر عن بنية تجاوز لما قدمته أجيال الشعراء قبلهم، من أجل إعادة الحياة للنص الشعري، وتكملة المشوار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى