عبر تردّدٍ قديم

عبدالله أبوطالب عليوة
لم يكن في البيت شيء يتحرك غير عقارب ساعةٍ قديمة،
تدقّ الوقت ببطءٍ كأنها تُعدّ ما تبقّى منه.
جلس “سالم” على كرسيه الخشبيّ، أمام نافذةٍ نصف مفتوحة على صمت الليل،
وفي ركن الغرفة راديو عتيق، غطّاه الغبار إلا من زرّ التشغيل الذي لم يفقد لمعانه بعد.
كان ذلك الراديو رفيقه الوحيد منذ رحليها،
يستمع إليه لا ليتابع الأخبار، بل لأن الأصوات التي تخرج منه
كانت تذكّره بأنّ العالم ما زال يتكلّم، وإن صمت هو.
في تلك الليلة الباردة،
أدار المؤشّر على غير هدى، يتنقّل بين محطاتٍ متعبة كصوته الداخلي،
حتى توقّف فجأة عند بثٍّ ضعيفٍ يشبه الهمس.
كان صوت امرأةٍ يقرأ ببطءٍ كأنها تُمسك الكلمات بيديها لتمنعها من السقوط:
“في الليل، حين تسكن الأصوات، ينهض في داخلي ظلٌّ يشبهك…”
تجمّد سالم.
العبارة كانت له.
جملته بالضبط، بنفس النَفَس، بنفس التوقفات بين الحروف.
كلمات كتبها في دفتـره القديم قبل عشرين عامًا،
حين كان يظن أنّه كاتب،
قبل أن تطحنه الحياة في طاحونة العمل والوحدة والنسيان.
اقترب من الراديو كمن يقترب من معجزة،
شدّ الصوت قليلًا،
فسمعها تتابع قراءة النصّ كلّه، جملةً جملة، بنفس ترتيب الحروف، بنفس الخطأ الإملائي الذي ظلّ يؤنّبه عليه طوال عمره.
“من أين عرفتِ؟”
همس لنفسه، كأنّ المرأة قد تسمع.
لكنها لم تتوقف.
صوتها كان دافئًا على غير ما يتخيّل للغرباء،
يخرج من بين تردّدات بعيدة كأنه قادم من زمنٍ آخر،
من مكانٍ يعرفه أكثر مما يعرف نفسه.
أوشك أن يتذكّر:
هل أرسل النصّ لأحد؟ هل قرأه أمام أحد؟
لكنّه كان يحتفظ بدفتره في درجٍ مغلق منذ سنين.
نهض بخطواتٍ مضطربة نحو الخزانة، فتحها بيدٍ مرتجفة،
وبعد بحثٍ بين الأوراق القديمة المصفّرة، وجده هناك،
عليه ترابُ الزمن ودموعٌ جفّت.
مدّ أصابعه إليه كما يمدّ يده إلى شيءٍ يخشى أن ينكسر من شدّة الحنين.
فتح صفحاته ببطء، فإذا بالحروف كما تركها،
باهتة كأنها شيّبتها الأيام،
لكن أثر اليد التي خطّتها ما زال دافئًا في الورق.
تأمّل خطوطه وقال هامسًا:
“هي فقط من كانت تقرأ بهذه الطريقة،
هي فقط من كانت تؤنس وحدتها بكتاباتي،
كانت تظنّني أديبها الذي لم يأتِ الزمان بمثله،
لا تقرأ لسواي كأنّ كلماتي خلقت لها وحدها.”
ثمّ رفع رأسه نحو المذياع،
وكان الصوت ما يزال يتردّد في أذنيه خافتًا، بعيدًا،
كأنّه يأتي من وراء الغياب نفسه.
“هل هو صوتها؟
هل بعثها الشوق لتزورني عبر الأثير؟
أم أنّها أضغاثُ حلمٍ أيقظها الحنين؟
من أين أتى هذا الصوت… أم أنّ السرّ فيّ لا فيها؟
جلس على الكرسيّ من جديد،
عيناه تائهتان بين الراديو والدفتر،
يشعر أنّ شيئًا من الماضي تسلّل إليه بخفّة النسمة،
فأحيا في قلبه ما ظنّه مات.
في الخارج، كانت الريح تمرّ على النافذة فتئنّ،
كأنّها تردّد معه:
“في الليل، حين تسكن الأصوات، ينهض في داخلي ظلٌّ يشبهك…”
ابتسم سالم ابتسامةً مبلّلة بالدمع،
ثمّ أدار المذياع مرّة أخرى،
لكنّه لم يسمع سوى همس الهواء
انحدرت دمعةٌ على وجنته، ثم ثانية،
كأنّ القلب تذكّر فجأة ما كان يحاول نسيانه.
مدّ يده إلى الراديو كمن يلمس وجهًا من غيم،
وهمس بصوتٍ مختنق:
ــ “لماذا تركتِني كل هذا الوقت؟
لماذا لم تأتي عبر تردّدٍ قديم، كما جئتِ الآن؟
أما علمتِ أن كلّ حنينٍ في صدري كان صوتك؟
أنّي لم أكتب حرفًا منذ رحيلك،
لأني كنت أعلم أني إن كتبت، لن أجد من يقرأني كما كنتِ تفعلين؟
حتى الذين حاولوا الفهم… لم يسمعوا المعنى كما كنتِ تسمعينه.
كنتِ تجعلين للكلمة عبيرًا،
وللأحرف رائحةً تشبه عطركِ القديم،
كأنّ الحروف كانت تتعطّر حين تمرّ من شفتيك.”
سكت، ومسح دموعه بباطن كفّه،
ثم تابع بصوتٍ أوهن من الهمس:
ــ “لو كنتِ تعلمين كم ظلّ صوتكِ فيّ حيًّا…
كم ليلةٍ ناديتكِ فيها بين الصمت والموج،
علّ الراديو يعثر على ذبذبةٍ تحملكِ إليّ…
لكنّك تأخّرتِ يا حبيبتي، تأخّرتِ كثيرًا.”
ثم أدار المؤشرَ ببطء،
كأنّه يبحث عنها بين المسافات الميتة،
فلم يسمع سوى وشوشة الهواء،
كأنّها تناديه:
“أنا هنا… عبر تردّدٍ قديم.”.
وهمس هو أيضًا، كأنه يجيبها:
“ها أنا أسمعك، ولو لم يتكلّم أحد.”
كانت السماء ساكنة، والقمر يشبه عينًا ترقب من بعيد.
ابتسم، وقال لنفسه:
“ربما لم يكن المذياع من تحدّث… ربما كانت الذاكرة هي التي وجدت ترددها أخيرًا.”
وانتهى الليل،
لكن صوتها ظلّ يسكنه،
يأتي من حيث لا يعرف،
كلّما اشتاق أن يكتب.




