العمق الحضاري في السيرة النبوية.. دار الندوة (2)

د. طارق حامد| مصر
الشورى في السيرة النبوية وموقعها في القرآن سؤالٌ يمسُّ جوهر المنهج الحضاري في الإسلام أدركت حقيقة عظيمة، وهي أن الشورى لم تكن مجرد إجراء عابر، بل كانت مظهراً من أهم مظاهر العمق الحضاري في بناء الدولة والمجتمع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
دعنا نتناول مفردات هذا الأمر الجليل من خلال عدة نقاط:
أولاً: الشورى في الغزوات والمواقف التي ذكرتها – تطبيقات عملية
لقد جسد النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الشورى في أحلك الظروف وأصعب اللحظات، مما يؤكد أنه قيمة أصيلة وليست تكتيكاً مؤقتاً.
1. غزوة بدر (وقعة الفرقان):
· المفردة: اختيار موقع المعركة.
· الموقف: عندما علم النبي صلى الله عليه وسلم بقرب جيش قريش، تشاور مع الصحابة. كان الموقف حاسماً. فقام أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فتكلما وأحسنا. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد رأياً آخر، فقام الحباب بن المنذر رضي الله عنه وسأل: “يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتعداه ولا نقصر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟” فقال النبي: “بل هو الرأي والحرب والمكيدة”. فاقترح الحباب الانتقال إلى موقع آخر بالقرب من بئر بدر، بحيث يحرم العدو من الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أشرت بالرأي” وأمر بالنزول هناك. هنا نرى كيف أن الشورى قادت إلى قرار عسكري استراتيجي محكم.
2. غزوة أحد:
· المفردة: الخروج من المدينة أم البقاء فيها.
· الموقف: بعد وصول أخبار قدوم جيش قريش، جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه للشورى. كان رأيه الشخصي والكثير من كبار الصحابة هو البقاء في المدينة والتحصن فيها. لكن غالبية الشباب، ممن فاتتهم بدر، أصرّوا على الخروج لملاقاة العدو خارج المدينة. احترم النبي صلى الله عليه وسلم رأي الأغلبية ونزل عليه، ولبس لأمة الحرب وخرج. رغم أن النتيجة كانت مؤلمة، إلا أن الدرس كان عظيماً: احترام إرادة الأمة حتى لو خالفت الرأي الأول للقائد، وأن في ذلك حكماً إلهية لاختبار المؤمنين.
3. غزوة الخندق (الأحزاب):
· المفردة: التكتيك الدفاعي ضد جيش التحالف الضخم.
· الموقف: كان الموقف خطيراً جداً. فجاء سلمان الفارسي رضي الله عنه باقتراح لم تعرفه العرب من قبل، وهو حفر الخندق. فقَبِل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرأي واستحسنه، وأمر بتنفيذه فوراً. هذه الشورى كانت سبباً رئيسياً في حماية المدينة وانتصار المسلمين.
4. صلح الحديبية:
· المفردة: قبول شروط الصلح التي بدت في ظاهرها مجحفةبالمسلمين.
· الموقف: بعد مفاوضات شاقة، جاءت شروط الصلح قاسية (مثل: إرجاع من يأتي مسلماً من مكة دون إذن وليه، ومنع المسلمين من العمرة ذلك العام). استشاط الصحابة غضباً وكادوا يرفضون. لكن النبي صلى الله عليه وسلم أصر على القبول، وقال لهم: “إني عبد الله ورسوله، لن أُخالف أمره، ولن يُضيعني”. ثم أمرهم بالتحلل من إحرامهم (ذبح الهدي وحلق الرأس) فلم يفعل أحد. دخل على أم سلمة رضي الله عنها مغتماً، فأشارت عليه بمشورة ذكية، وهي أن يخرج ويذبح هديه ويحلق رأسه دون أن يكلم أحداً. فلما رآه الصحابة يفعل ذلك، قاموا جميعاً يذبحون ويحلقون. هنا نرى أن الشورى لم تكن مع الرجال فقط، بل مع النساء، وأنها ساهمت في حل أزمة نفسية جماعية.
ثانياً: الشورى في القرآن – القيمة التي توسطت بين الصلاة والزكاة
هذه هي المفردة القرآنية العظيمة التي أشرت إليها، وهي قوله تعالى في سورة الشورى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}. ولكن الأعجب من ذلك هو موقع الشورى في سياق الآيات التي تجمع بين العبادات القلبية والمالية والاجتماعية. تأمل معي قوله تعالى في سورة البقرة: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}
هنا تتجلى العبقرية القرآنية:
· الصلاة (﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾): هي الركن العملي الأول، وهي صلة العبد بربه، تمثل الطاعة المطلقة لله والانضباط الروحي والأخلاقي.
· الزكاة/الإنفاق (﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾): هي الركن العملي الثاني، وهي علاقة العبد بمجتمعه، تمثل التكافل الاجتماعي والعدالة الاقتصادية وتطهير المال والنفس.
· الشورى (﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾): هي الحلقة الواصلة بين هذين الركنين. فهي التي تنظم شؤون المجتمع الذي يقيم الصلاة ويؤدي الزكاة.
لماذا التوسط؟
لأن الشورى هي النظام الذي يحوِّل الطاقة الإيمانية(الصلاة) والطاقة المالية (الزكاة) إلى طاقة حضارية. بلا شورى، قد تتحول الطاعة إلى استبداد، والإنفاق إلى تبذير أو احتكار. الشورى هي التي تضبط إيقاع الحياة الجماعية، وتجعل القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية نتاجاً لعقل الأمة الجماعي، وليس لرأي فرد أو فئة. فهي تجسيد عملي لقول الله تعالى: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا”.
دار الندوة والشوري
الحديث عن دار الندوة يمس صميم النظام الاجتماعي والسياسي في مجتمع ما قبل الإسلام، وكيف تحولت بمفعول الإسلام من رمز للسيادة القبلية إلى نموذج للتضحية والإيثار. دعنا نغوص في تفاصيل هذه القصة المليئة بالعبر.
أولاً: دار الندوة – لماذا قامت وكيف كانت نواة للشورى في الجاهلية
النشأة والهدف:
· يُنسب بناء دار الندوة إلى قصي بن كلاب، الجد الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي وحّد قريشاً وسيّدها.
· الهدف: لم تكن مجرد دار عادية، بل كانت أول “برلمان” أو “مجلس شورى” في تاريخ مكة. كانت مقراً للاجتماعات المهمة، تُتخذ فيها القرارات المصيرية التي تهم قبيلة قريش كلها.
وظائفها ونظام العمل فيها:
كانت دار الندوة بمثابة المؤسسة الدستورية لمكة،وكانت تختص بما يلي:
1. مناقشة الشؤون العامة: كالحرب والسلم.
2. التجارة والاقتصاد: تنظيم رحلتي الصيف والشتاء.
3. الشؤون الاجتماعية: مثل تزويج النساء، حيث كان لا يتم عقد الزواج إلا فيها.
4. استقبال الوفود: كانت مقراً لاستقبال ملوك وحكام الدول الأخرى.
5. شؤون القبائل: التحكيم في النزاعات بين القبائل.
وما يلفت النظر أن الدخول إليها والمشاركة في قراراتها لم يكن متاحاً لكل أحد، بل كان محصوراً في شيوخ وقادة بطون قريش فقط (عادة من تجاوز الأربعين عاماً). فكانت تمثل “مجلس حكماء” قبلياً، وهي صورة بدائية لمبدأ الشورى، لكنها كانت نخبوية ومقصورة على أصحاب النفوذ.
ثانياً: قصة حكيم بن حزام مع دار الندوة – من زق خمر إلى 100 ألف دينار
هذه القصة هي واحدة من أروع قصص التحول التي صنعها الإسلام، وهي تحكي قصة حكيم بن حزام رضي الله عنه، ابن أخ السيدة خديجة رضي الله عنها، وكان من أشراف قريش.
الشراء بزق خمر (في الجاهلية):
· في الجاهلية، كانت دار الندوة ملكاً لعمرو بن علقمة، ثم آلت إلى صفوان بن أمية (قبل إسلامه).
· أراد حكيم بن حزام شراءها، فاشتراها من صفوان مقابل زق (وعاء) من الخمر! هذا الثمن الرمزي يدل على أمرين:
· أولاً: أن قيمتها المعنوية والسياسية كانت لا تقدر بثمن في نظر حكيم.
· ثانياً: أن التعامل بالخمر كان أمراً عادياً في الجاهلية.
البيع بمائة ألف دينار والتصدق بها (في الإسلام):
· بعد أن أسلم حكيم بن حزام رضي الله عنه وأصبح من أثرياء الصحابة وتجارهم الكبار، تغيرت نظرته إلى المال والملكية.
· جاءه رجل يعرض عليه شراء الدار، فسأله حكيم: “كم تعطيني؟” قال الرجل: “مائة ألف دينار” (وهو مبلغ خيالي في ذلك الزمان).
· قبل حكيم البيع، ولكن ليس ليكدس الثروة، بل ليقوم بأعظم عملية استثمار أخروي. فلما قبض المال، قال كلمته الخالدة: “اللهم اشهد، إني قد جعلت ثمنها في سبيل الله”، فتصدق بثمنها كاملاً في سبيل الله.
· هذه القصة ذكرها المؤرخون مثل ابن الأثير وغيره، وهي شاهدة على كيف أن الإسلام يغيّر القيم، فتحولت الدار من رمز للسيادة القبلية إلى وسيلة للتنافس على الجنة بالإنفاق في سبيل الله.
ثالثاً: ما أحوجنا لقيمة الشورى في عصرنا
قصة دار الندوة وحكيم بن حزام ليست مجرد حكاية تاريخية، بل هي مرآة لعصرنا، وما نحتاجه اليوم هو:
1. استعادة روح المؤسسية: كما كانت دار الندوة مؤسسة للشورى (وإن كانت قاصرة)، فنحن أحوج ما نكون إلى مؤسسات شورى حقيقية، تشرك العقول والكفاءات في صنع القرار، بعيداً عن الفردية والاستبداد بالرأي.
2. تحرير الشورى من النخبوية: الشورى في الإسلام هي حق للأمة، “وأمرهم شورى بينهم”. يجب أن تتسع لتشمل أهل الاختصاص والعلم والخبرة من جميع فئات الشعب، وليس حكراً على فئة معينة.
3. ربط الثروة بالقيمة والأخلاق: كما حول حكيم ثمن دار الندوة من زق خمر إلى صدقة، فنحن نحتاج إلى اقتصاد أخلاقي، تكون فيه الثروة وسيلة للإعمار والتنمية والتكافل، وليس للتباهي والاستغلال.
4. الشجاعة في تقديم المشورة: كما كان الحباب بن المنذر وسلمان الفارسي وأم سلمة رضي الله عنهم، فنحتاج إلى ثقافة تشجع على تقديم الرأي والمشورة بجرأة وأمانة، ويحتاج القادة إلى التواضع لقبولها.
5. الشفافية ووضوح المعلومات: لا شورى بلا علم. فالقرارات المبنية على الشورى تحتاج إلى معلومات صحيحة وشفافة ليتم مناقشتها بشكل سليم.
ختاماً:
لقد انتقلت دار الندوة من كونها رمزاً للسيادة القبلية في الجاهلية، إلى أن اشتراها صحابي جليل بثمن رمزي (زق خمر)، ثم باعها بثمن خيالي (مائة ألف دينار) ليتصدق به كاملاً في سبيل الله. هذه الرحلة تلخّص التحول الحضاري الذي صنعه الإسلام: من عبادة الأوثان إلى عبادة الله، ومن حكم القبيلة إلى حكم الشريعة، ومن التكالب على الدنيا إلى التنافس على الآخرة.
فنعم، نحن أحوج ما نكون إلى “دار الندوة” جديدة، ليس بصورتها الجاهلية، بل بروحها الإسلامية التي تجمع العقول، وتحترم الرأي، وتضع المال في موضعه، وتجعل مصلحة الأمة هي الغاية والمنتهى.
خلاصة الأمر:
لقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشورى منهج حكم، وجعلها القرآن قيمة مركزية تتوسط بين أهم ركنين عمليين في الإسلام. إنها:
· تجسيد للعدل: فلا حكم لفرد دون الأمة.
· اعتراف بالعقل الجماعي: “إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية”.
· تكريم للإنسان: بأن جعله شريكاً في القرار الذي يحكم حياته.
· ضمانة للاستقرار: فالقرار المشترك أقوى وأكثر قبولاً.
نسأل الله أن يردَّ المسلمين إلى منهج شوراهم، وحضارتهم، ومجدهم الذي تأسس على هذه القيم الخالدة.



