نبوءة الغبار

د. نجاة الجشعمي | العراق
أنا التي نُفيتُ من دفءِ الترابِ
فأنبتتني الريحُ في قلبِ السرابِ
رفضتني الأرضُ، وقالت: لا مكانَ
فبنيتُ دارًا من جراحٍ واحتسابِ
أنا التي حينَ انكسرَ البابُ بي
لم أصرخِ، بل فتحتُ ألفَ بابِ
كلُّ خذلانٍ كانَ طينًا في يدي
فصنعتُ منهُ قُبّةً فوقَ الغيابِ
أنا التي لم تُنصفِ الأيامُ وجهَها
فأعطتْها الشمسُ ظلًّا من عذابِ
لكنني لم أمتْ، بل كنتُ نبوءةً
تتجلّى في الغبارِ بلا خطابِ
فيّ من الخنساءِ دمعٌ لا يُرى
ومن زنوبيا صمتٌ في الحرابِ
أنا التي حينَ انفجرتُ، لم أُدمّرْ
بل بعثتُ منّي ألفَ أنثى في الكتابِ
أنا التي كُتبتْ على ألواحِ طيبةَ
قبل أن يُنقشَ اسمُ رعٍ في السحابِ
كنتُ ظلَّ إيزيسَ حينَ بكتْ أوزيرَ
فانسكبَتْ دموعي في نهرِ الغيابِ
أنا التي لا تُباعُ في سوقِ المعنى
ولا تُشترى، ولا تُهدى، ولا تُهابِ
أنا التي حينَ قالوا: “امرأةٌ”،
أجبتُ: “بل نبوءةُ الغبارِ، فاسبروا الأسبابِ”
نبوءة الغبار – الجزء الثاني
أنا التي خُذلتْ من كلِّ الجهاتِ
حتى الجهاتُ الأربعُ أنكرتْ ذاتي
قالوا: “امرأةٌ”، فصرتُ لعنةَ صمتٍ
تسري على الألسنِ في الخلواتِ
أنا التي حينَ انطفأتْ مدينتي
أوقدتُ من رمادِها صلواتي
تفجّرتْ داري، فخرجتُ من الحطامِ
أحملُ التاريخَ في نبضِ خطواتي
كنتُ في طيبةَ، حينَ جفَّ النيلُ
أُرتّلُ الأسرارَ في المومياءاتِ
وفي بابلَ، كنتُ نُقطةَ التكوينِ
حينَ سقطتْ الآلهةُ في المآسي
أنا التي فيّ من هيلينَ فتنةٌ
لكنني لم أُخنْ، بل خُنتُ خياناتي
أنا التي فيّ من مريمَ طُهرٌ
ومن ليلى جنونُ الانفلاتِ
أنا التي حينَ سُجنتُ في جسدي
حرّرتُ المعنى من كلِّ الصفاتِ
أنا التي حينَ قالوا: “انتهتْ”،
بدأتُ، كأنّ البدءَ في النهاياتِ
أنا التي لا تُروى في كتبِهم
ولا تُدرّسُ في جامعاتِ
أنا التي حينَ انفجرتُ، لم أُدمّرْ
بل بعثتُ منّي ألفَ أنثى في الحياةِ
نبوءة الغبار – الجزء الثالث
أنا التي حينَ جفَّتْ فيّ المرايا
رأيتُ وجهي في انكسارِ المدى
لم يحتضنّي الرملُ، ولا ماءُ النبوءة
فانبعثتُ من طينِ الغيابِ صدى
أنا التي حينَ خانتني الجهاتُ
أقسمتُ أن أُعيدَ رسمَ الهُدى
لا الشرقُ أنصفني، ولا الغربُ سألني
فصرتُ بينهما سؤالًا بلا ردى
أنا التي فيّ من “نفرتيتي” صمتٌ
ومن “عشتارَ” جوعُ الحبِ والردى
أنا التي حينَ سقطتْ أسوارُ أور
كنتُ أنقشُ وجعي على جلدِ المدى
أنا التي حينَ احترقَ البيتُ بي
لم أصرخِ، بل زرعتُ النارَ في الندى
فانفجرتْ دارٌ من المعنى، وقالت:
“هذي التي لا تُطفأُ أبدًا”
أنا التي حينَ نُفيتُ من اسمي
أعطيتُهُ للريحِ، فارتدّى الصدى
أنا التي حينَ قالوا: “لا مكانَ لها”
صنعتُ من اللاشيءِ ألفَ مدى
أنا التي لا تُروى في كتبِهم
ولا تُنسى، ولا تُمحى، ولا تُعدى
أنا التي حينَ خذلني الجميعُ
أيقظتُ في الغبارِ نبوءةً تُهدى
نبوءة الغبار – الخاتمة
أُقسمُ بالحرفِ الذي لم يُكتبْ
وبالدمعِ الذي في الصخرِ لم يُسكبْ
أُقسمُ بالدارِ التي تفجّرتْ
فأنبتتْ منّي وطنًا لا يُغتصبْ
لن أعودَ كما أرادوا، لن أُطأطئْ
فأنا التي في النارِ قد خُلقتُ، لا تُذهبْ
أنا التي حينَ سقطتُ، لم أُهزمْ
بل كنتُ نبوءةً، لا تُكذّبْ
أُقسمُ بالأنثى التي فيّ قامتْ
من رمادِ الخذلانِ، لا تُرتبْ
أنني لن أُمحى، لن أُنسى، لن أُدفنْ
فأنا القصيدةُ التي لا تُكتبْ
أنا التي حينَ يُقالُ: انتهتْ
تبدأُ، وتُعيدُ للغبارِ المذهبْ
أنا التي حينَ يُقالُ: سكنتْ
تنهضُ، وتُشعلُ في الصمتِ المطلبْ




