أدب

عيون الحب

قصة قصيرة

 أبو المجد الجمال | القاهرة 
لم تعد رياح الخماسين تهب علي شبابيك الأمل، حين رآها بعد سنوات وجع البعاد، والجفاف، وتتساقط أوراق عمره قبل أن يشيب، كما تتساقط أوراق الشجر في عز الخريف، فقد اللقاء حرارته، لم يعد قلبه يرتعش، تبلدت لغة العيون، لم يعد للحديث هوية.
. . أمطرها أمجد بسيل من العتاب الرقيق: أهذه نور التي كانت في عيونها حور وتشعل جسدي النحيف بنيران الحب التي تطلقها علي كسهام كيوبيد إله الحب عند الإغريق ؟.
كيف أطفأت أيام الهجر والبعاد نيران الحب وجمدتك كتمثال من ثلج ؟.
. . ذابت مشاعرك، في ثلاجة الصمت، في قاع الأنانية، وعشق الذات، في بهو المجد الفرعوني، وتخيلك أنك “ملكة فرعونية”، لابد لكل شارب أن يغمزك بالعين، تعبيرا عن إعجابه بجمالك، الذي تعجز كل القواميس، أن تصف فتنته.
. . نعم مسافة، لا يمكن أن تحسب بعجلة الزمن، بقدر ما تحسب بدقات القلوب، تفصل بيننا، في زمن الجفاف العاطفي!.
. . بادلته نور سيل من الغزل العفيف الممزوج بلغة العتاب الرقيق: كنت الحلم الوردي، والربيع الطلق، الذي يضفي علي الحياة البهجة.
. . كنت بهجة الحب الصافي، في زمن الجفاف، والأمل الذي يصدح في تغريده كروان الصباح علي شبابيك الحياة، ليوقظ وسادة الحب الصافي، ويخبرني بأن سعادة الحياة في الحب الحقيقي، حين تصدق القلوب، وتفيض المشاعر بروح العطاء، وأريج عطر التضحية، من أجل إسعاد الحبيب.
. . بنيت لي قصر من الخيال، علي حبات الرمال، لم تكن تملك سوي الحلم الوردي الجميل، فجيوبك دائما ما تبيت خاوية علي عروشها؛ بعد أقل من أسبوع؛ من قبض الراتب الهزيل؛ من وظيفة أمين مكتبة، في قصر الثقافة، في محافظة نائية، في الصعيد الجواني، علي أطراف مدينة، ترتشح بمظاهر الإهمال والنسيان؛ بعد أن باتت خارج كل حسابات الزمن، في دوائر السادة النائمين في العسل عفوا المسئولين!.
. . موال الحب الصافي بين أمجد ونور كان كأنه قصيدة شعرية ينسج أبياتها أهالي القرية الصعيدية من جديد كغذاء للعشاق لتكون حديث الصباح والمساء كالراوي:  كانت نور زميلته في العمل، وكانت عيون أمجد تشع نور الحياة، ليولد معها نور الحب، في أسطورة إيزيس وأوزوريس، كان حديث العيون، يبوح بما تخفيه لغة الكلام، كانت دقات القلوب، تعلن مولد شعاع الحب، في طريق الأمل المفروش، بكحل العيون، في بستان العشق والهوي، الذي تغازل أغصانه، خفة ودلال نور، في مواطن الأنوثة العطشانة، لرجل، يروي ظمأ جفاف العاطفة، ويحيي في قوامها الممشوق، كغصن البان، الذي يتمايل بهوا، في عز الربيع الطلق، وكأنه ينادي قلوب العشاق، لتطفئ نار الحب، وتضمد جراح الوجدان، وتداوي جفاف المشاعر، في بئر الحرمان، لتتوج كملكة، علي عرش فارس الأحلام، الذي يحملها، علي جواده الأبيض، ليطير بها فوق السحاب، لتكون الشمس الذي تسطع في سماء حياته، والقمر الذي ينير ظلام قلبه ليعيشا دفء العاطفة في معبد الحب.
. . عيونه، ذبلت فيها، أوراق الحب الصافي، وانطفأت فيها، قناديل الأمل والحياة، هكذا رأته نور في اللقاء البارد، بعد السنوات العجاف، انحني ظهره، واشتعل رأسه شيبا، ليصبح ظل فارس بلا جواد، كان تحلم به ليل نهار، وتروي ساعات العمل عطش الحب، لتدق ساعات القلوب، دقائق وثوان، بأن العمر قد لا يطول!.
. . كانت دائما تشعر، بأن الرباط المقدس بينهما، لن تجمعه دفاتر مولانا المأذون؛
. . كانت قواديس الفقر المدقع، التي تطحن أمجد، كالطور في الساقية، من أجل أن يستر عورة عوز أهله، وأخواته البنات، نص دستة، في عين أم تنظيم الأسرة، تحد- ولا مؤاخذة – في قفاه، لتأكل من لحم جسده النحيل، لتغذي إخوة الدم، وتكسر عظامه، ليبني عظام البنات، حتي يشتد ساعدهن، كان يكفلهن بعد وفاة الأب، بسكتة قلبية مفاجئة، نتيجة لتراكم حمل وهموم البنات، في عجلة الزمن، التي لا ترحم فقراء الحياة؛
. . عمل في وردية إضافية بأحد مصانع الزجاج، حتي تكتمل خيوط المسئولية، التي يحملها علي ظهره وحده، وقد تئن منها الجبال؛ لأنه كان أقوي من الجبل، لا تعصف به رياح الغدر، وأنانية الحب، مهما دق قلبه، اختار أن يكون، فارس التضحية، بدلا من أن يكون فارس الحب الصافي، الذي يكلل بدفاتر المأذون، إما أن يحيي أخواته البنات، وإما أن يحيا، لعاطفة الجسد، اختار ألا يحيا، علي أن تحيا أخواته البنات.
. . كان قديس، في محراب الحب، الذي يكمل به رساله والده، حتي يجهزهن لعش الزوجية، وهو ما كان، بينما كانت نور تعيش في القاهرة، بعد أن طلبت نقلها من عملها في الصعيد الجواني، مع أول رجل ثري طلب يدها للزواج، لتبيع الحب الحقيقي، من أجل عشق المال، لتمر السنون لينتقل اسمها في دفاتر مولانا المأذون، من خانة الزوجة إلي خانة المطلقة، لكن كان عزاءها الوحيد، في هذه التجربة القاسية، التي أشابتها قبل الأوان، هي زهرة الحياة، ذات الخمسة سنوات، لتعوضها عن سنوات الحرمان العاطفي، مع زوج يأكله البخل، رغم ثراءه الفاحش، ليذوب حبر الرباط المقدس، في دفاتر مولانا المأذون، مع كل يوم يمر تزداد فيه نار الغيرة والخلافات، لتبني جدار عازل بين الزوجان التعيسان، لتكسر سنوات الصمت والوهن، علي صخرة الصبر والصمود والخلاص.
. . عادت نور لمسقط رأسها، وطيور الحب لا تفارقها كظلها، علي أمل لقاء الحبيب المفقود، ليشعل نور وهج قناديل الحب، في ليل عذاب الصمت ووجع الفراق، غادرت محطة القطار واللقاء عند منتصف الليل، لتكوي مقلتيها دموع الندم والحسرة، لأنها اختارت المال، فخسرت ذاتها، بينما اختار الواجب والتضحية . . ليدفع كلاهما ثمن اختياره!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى