دستور المدينة والحجة على الحضارة المعاصرة

د. طارق حامد
يمثل دستور المدينة واحدًا من أروع الوثائق الحضارية في تاريخ البشرية، ولا يزال يشكل حجة على الحضارة المعاصرة في العديد من مجالاتها.
يقول المستشرق الروماني جيورجيو: “حوى دستور المدينة اثنين وخمسين بندا، كلها من رأي رسول الله. خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى،
تشمل مفردات دستور المدينة المنورة تنظيم العلاقة بين القبائل المسلمة وغير المسلمة من خلال مبادئ مثل كونهم “أمة واحدة من دون الناس”. كما وضعت الصحيفة أسس العدل والمساواة، وحقوق الجار، وحقوق الأفراد والتعاون المشترك في الدفاع عن المدينة ضد العدوان الخارجي، مع تحديد مرجعية عليا لحسم النزاعات.
أبرز مفردات دستور المدينة
المواطنة والأمة: التعريف بالمسلمين كـ “أمة واحدة من دون الناس” والمهاجرين والأنصار كجزء منها.
الحقوق والواجبات:
التعاون بين القبائل المسلمة في “فداء عانيها” و”القسط بين المؤمنين”.
تحديد مسؤولية كل قبيلة في “فداء عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين”.
حقوق الجار، حيث يُعتبر كالنفس، فلا يضر ولا يُضرّ.
ضمان عدم إلحاق الضرر بالمؤمنين دون وجه حق.
الأمن والدفاع:
الدفاع المشترك ضد العدوان الخارجي، حيث تنص الصحيفة على “النصر على من دهم يثرب”.
التأكيد على أن “النصر للمظلوم”.
ضمان حماية الجميع، باستثناء “من ظلم أو آثم”.
المرجعية القضائية:
الرجوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لحسم الخلافات التي قد تحدث بين أهل الصحيفة، وذلك في سياق “العدل الإنساني”.
الإشارة إلى أن الله ورسوله هما المرجع النهائي في قضايا النزاع والخلاف.
العلاقات الخارجية:
تحديد العلاقة مع اليهود، حيث ينفقون مع المسلمين ما داموا محاربين.
تحديد مسؤولية الأفراد في المدينة في الدفاع عن وطنهم.
حرية الدخول في الصلح مع الأعداء، باستثناء الذين يقاتلون في الدين.
الحريات:
ضمان حرية المعتقد والعبادة.
ضمانات لحرية الحركة في المدينة للجميع.
في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تغط في ظلام العصور الوسطى، وتتصارع على أساس عرقي أو طبقي، كانت المدينة المنورة تشهد ولادة “عقد اجتماعي” فريد، لم يكن مجرد اتفاق بين قبائل، بل كان تأسيسًا لدولة حضارية تقوم على أسس لم تعرفها البشرية جمعاء إلا متأخرًا. دستور المدينة لم يكن وثيقة سياسية فحسب، بل كان تجسيدًا للرؤية الحضارية في السيرة النبوية.
أولاً: تأسيس مفهوم “الأمة السياسية” المتعددة الأديان
أبرز ما في هذا الدستور هو مصطلح “أمة واحدة من دون الناس”. هذه العبارة ثورية بمقاييس ذلك الزمان والزمان الحاضر:
· المواطنة على أساس الانتماء للأرض والوطن: ضمت “الأمة” في هذا الدستور المسلمين من مهاجرين وأنصار، واليهود، وربما غيرهم من الوثنيين في بداية الأمر. كان الانتماء إلى المدينة-الدولة هو الرابط الأعلى، يتجاوز الانتماءات القبلية والدينية الضيقة.
· الحجة على الحضارة المعاصرة: بينما لا تزال العديد من المجتمعات المعاصرة تعاني من الصراعات الطائفية والعنصرية، وتفشل في خلق هوية وطنية جامعة، قدم دستور المدينة نموذجًا عمليًا منذ 1400 عام. إنه يفضح عجز النماذج العلمانية المتطرفة التي تفصل الدين عن الأخلاق فصلاً كاملاً، كما يعيب على النماذج الثيوقراطية التي تقصي غير المسلمين. النموذج النبوي كان وسطيًا: هوية جامعة مع احترام الخصوصيات.
ثانيًا: صياغة عقد اجتماعي يقوم على العدل والمسؤولية المشتركة
· العدل كأصل عام: لم يكن العدل في الدستور حكرًا على المسلمين، بل كان شاملاً للجميع. فالنص على أن “النصر للمظلوم” بغض النظر عن دينه، وأنه “لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة… أن ينصر محدثًا ولا يؤويه” هو ضمان لعدم تغول القوي على الضعيف.
· المسؤولية المشتركة: فرض الدستور نظامًا للدفاع المشترك (“وأن النصر على من دهم يثرب”)، وجعل التكاليف المادية (“النفقة”) مشتركة بين جميع الأطراف ما داموا في حالة حرب. هذا يشبه مفهوم “الضرائب” الحديث لتمويل الدفاع، ولكنه كان قائمًا على الرضا والتراضي.
· الحجة على الحضارة المعاصرة: في عالم اليوم، حيث تتحول العقود الاجتماعية إلى نصوص قانونية معقدة تخدم غالبًا الأقوياء، وتفشل العديد من الدول في توزيع الثروات والواجبات بعدل، يذكرنا دستور المدينة بأن جوهر العقد الاجتماعي هو “القسط” و”المعروف” أي العدل والإحسان.
ثالثًا: ضمان الحريات الأساسية وحقوق الإنسان
· حرية الاعتقاد والعبادة: ضمن الدستور لليهود دينهم وأموالهم، وهو ما يعني اعترافًا صريحًا بحرية الدين. لم يُجبر أحد على اعتناق الإسلام كشرط للمواطنة.
· حقوق الجوار: اعتبار الجار كالنفس (“ولا يضر جارٌ جاره”) هو تأسيس لأعلى درابات التكافل الاجتماعي والأخلاقي، الذي يتجاوز القانون إلى مكارم الأخلاق.
· الحجة على الحضارة المعاصرة: بينما تتغنى الإعلانات العالمية بحقوق الإنسان، نجد أن دستور المدينة طبق عمليًا ما نادت به هذه الإعلانات بعد قرون. فهو لم يضمن الحريات بشكل سلبي (بعدم الاعتداء) فقط، بل بشكل إيجابي من خلال فرض التعاون والدفاع المشترك.

