د. هبة الغنيمي | القاهرة
“المركزية الأفريقية” أو”الأفروسنتريزم”، حركة تروج أن الحضارةالمصرية بناها الأفارقة السود، وأن سكان مصر المعاصرين ليسوا من أحفاد المصريين القدماء، بل هم جماعات غزاة أتوا إلى مصر.
لنعرف أولا من هم المصريين القدماء وتكوينهم السلالي:ونحن كباحثين في الحضارة المصرية القديمة نطلب من كل طلاب المعلومات حول الأصول المصرية القديمة التحقيق في الأدلة الأولية وصقل معرفتهم بمصر والحضارات الأفريقية الأخرى.
إن دعاة “المركزية الأفريقية” ليسوا وحدهم الذين لديهم مزاعم تتعلق بالحضارة المصرية وهو ما يؤكد حاجة المصريين إلى تقديم سردية قوية مجمعةتتحدث عن تاريخ مصر القديم من جوانب علمية مختلفة لأن الفكر يواجه بالفكر، ويأتي التصحيح الحقيقي لهذه الأفكار من خلال فتح المجال العام للدراسات الإنسانية، الأنثروبولوجيا وعلم المصريات والتاريخ وكتابة سردية مصرية عن التاريخ المصري القديم بأيدي المصريين أنفسهم وليس الاعتماد فقط على النقل عن الأجانب.
ويمكن الرد من قبل باحثي الإنسانيات مثل الأنثروبولوجيا والسيوسيولوجيا، وهذا جزء من رسالتي للماجستير تحدثت فيه دون تفصيل عن أصول المصريين القدماء من ساكنى وادي النيل حيث كانت الضرورة البحثية تستدعي ذلك لبيان نشأة الحضارة المصرية قبل البحث في نشأة المعارف والعلوم المصرية القديمة. من خلاله يمكن أن نفهم كيف تكونت السلالة المصرية القديمة وفيه أقول:
“أما عن سكان وادي النيل فمن المعروف أنه منذ بدايات العصر الحجري القديم كانت مصر مسكونة بجماعات بشرية منتشرة في أغلب أجزاء الوادي والصحراء، وقد تركوا بقايا من الأدوات والآلات الحجرية ومخلفات السكن دلت عليهم، وإن لم يتم العثور على جماجم أو هياكل عظمية تشير إلى أجناسهم . وعن العصر الحجري الحديث فهناك من يرى أن سكان مصر قد أصبحوا في هذا العصر ينتمون إلى سلالتين متميزتين، وإن كانتا مترابطتين، واحدة في الشمال (متوسطية) والثانية في الجنوب تتميز بسمات (البداريون). دلت على ذلك بقايا هذا العصر العظمية والحضارية، نقصد حضارة البداري في أسيوط نحو 4300 ق.م. وحتى عصر ما قبل الأسرات كان العنصر الشمالي المتوسطي يتوغل جنوباً بالتدريج. ساعد على ذلك سهولة الانتقال في بيئة خالية من العوائق الطبيعية.
ومع الاختلاط أخذ العنصر الزنجي البداري في التقهقر أمام العنصر الشمالي ونجد الأدلة على هذا التطور في حضارات نقادة في قنا ثم حلوان. ومع بداية العصور التاريخية كان المصريون قد أصبحوا (طبقاً لهذه الرؤية)جماعة بشرية بالمعنى السلالي كما قال جورج بوزنير وسليم حسن وجمال حمدان وأكد هذه الرؤية أيضا تشارلز روبنث وإليوت سميث، وهناك أيضاً النظرية الكلاسيكية في أصول المصريين القدماء التي طرح أسسهاG.G. Seligman، وهي الأكثر قبولاً بين الأنثروبولوجيين، لكنها في نفس الوقت شديدة التعميم.
وجوهر النظرية أن المصريون القدماء ينتمون بشكل أساسي إلى مجموعة إثنية ولغوية واحدة أكبر، هي مجموعة الحاميين الشرقيين والشماليين الذين ينتشرون وحتى الوقت الحالي في كل شمال أفريقيا وشرقها حتى القرن الأفريقي. وقد ظهرت الفروق المحلية الكثيرة في اللغة والجنس نتيجة للانتشار الجغرافي الواسع الذي حدث منذ عهد حديث نسبياً، ربما في أواخر عصر الجفاف بالصحراء. ففي العصر المطير كانت الصحراء في الشمال الأفريقي هي المعمور، أما وادي النيل وإقليم جبال أطلس فكانت هي اللامعمور .
يقول د. حمدي أبو كيلة نقلا عن د. إبراهيم أحمد رزقانة واصفا الجغرافيا البشرية لحوض النيل: «فكان سواد السكان ينتشر في رقعة شاسعة تغطي الصحراء المصرية–الليبية فلما حل الجفاف تحولت هذه الرقعة إلى بؤرة انتشار وتوزيع لكتلة سكان الصحراء يميناً ويساراً ، يميناً إلى النيل ويساراً إلى أطلس وبذلك انشطرت الكتلة الأم إلى جزيرتين بشريتين منفصلتين انفصالا تاماً وواسعاً هما على الترتيب الحاميون الشرقيون والحاميون الشماليين» وتقابل المجموعة الحامية وتجاورها في الغرب الأسيوي المجموعة السامية، وكلتاهما معا تؤلفا فرعاً من جنس البحر المتوسط الأوربي القوقازي، كما «ومن المسلم به أن الحاميين والساميين تعديلات من أصل واحد مشترك ، وأن هذا التفرع والتباين لم يحدث هو الأخر إلا منذ فترة حديثة للغاية نسبياً وإن كانت أقدم بالطبع من تفرع الحاميين الشرقيين والشماليين» .
وما يعنينا من هذا الأمر – لو أخذنا بهذه النظرية – أن الحاميين الشرقيين الذين استوطنوا الوادي في مصر بعد جفاف الصحراء نحو الألف السادس قبل الميلاد قد شكلوا الجسم الأساسي للسكان. وأن التجمعات التي وفدت عليهم بعد ذلك من الوسط الجغرافي المحيط كانت تشترك معهم في أصل اثني ولغوي مشترك، جعل التجانس والتجنيس سهلاً، والاختلاط والاندماج ممكناً، حتى أصبح المصريون – بعد نحو ثلاثة آلاف عام – ومع بداية العصور التاريخية جماعة بشرية متجانسة بالمعنى اللغوي والسلالي .
وخلال هذه الآلاف الثلاث من السنين كان المصريون قد تعرفوا على الزراعة وبذلوا جهوداً مضنية مع طيش الطبيعة في قاع الوادي ومستنقعاته. ويقول دكتور عبد العزيز صالح عن دور سكان الوادي وفاعليتهم في هذه الفترة: «والواقع أن أمور النيل ومطالب الزراعة لم تكن هينة دائماً في أوائل عصور الاستقرار المصري القديم ، وإنما تخللها مصاعب وظواهر ظلت تتطلب كثيراً من العمل والجهد المتصل، وإن لم يكن جهداً منتجاً في حد ذاته ، فيضانات النهر بقيت علي الرغم من وجودها وانتظام مواسمها، تستدعي اليقظة الجماعية لمواجهتها، وتتطلب التعاون لتقليل الأخطار، وتحتاج إلى كثير من بذل الجهد والصبر المهارة لتيسير الانتفاع بها وتوصيلها إلى الأراضي المرتفعة عن مستوياتها. وظلت بعض ضفاف النيل ومناطق دلتاه بخاصة علي الرغم من خصوبتها الفطرية، موطناً للأحراج النباتية والمنافع المائية طوال دهور ما قبل التاريخ وخلال أوائل العصور التاريخية ذاتها. وبهذا بقيت هي الأخرى تحتاج إلى تكاتف بشري وسعي متصل من أجل استصلاحها وتهذيبها واستغلالها».