تاريخ

العيش الشمسي

بقلم: د. محمود رمضان

قضيت إجازة أحد الأعياد في دير مواس وملوي وديروط موطن أجدادي الكرام، وكان لشدة الحنين لرؤية كل شيء هناك، وكل الصعيد أن يميل القلب لسماع صوت اللهجة الخصبة وبشاشة الوجوه الصعيدية الجميلة التي يكسوها الصبر والمثابرة والعزم والقوة والمودة، أشتاق لمذاق طعام عمتي عزيزة آل خضراوي التي تعدت ١٠٤ أعوام، وخاصة لأستمتع بمذاق العيش الشمسي، وقد فاجأتني إحدى قريباتي الأستاذة الجامعية المرموقة، وقالت: نسيت عاد يا محمود ياك؟!


هنا قضيت طفولة سعيدة جداً ومبهجة في قريتنا الرائعة، الحياة في الصعيد مبهجة جدا على عكس ما تصوره الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية، ورغم حياتي الحالية في القاهرة وتدريسي بالجامعات المرموقة بها، إلا أنني أسافر مع زوجي وأولادي لنقضي إجازة العيد مع أمي وأبي وعائلتي الكبيرة، وبصراحة (اللمة حلوة).
كنت طفلة صغيرة وكانت أمي تحرص على جمع شقيقاتي لتعلمنا فنون الطبخ، فكل منا ستصبح في يوم ما مسئولة عن بيت وأطفال، كانت أمي تعلمنا كل شيء، حتى طريقة عمل العيش الشمسي، وللعلم فمذاقه في الفرن البلدي أشهى كثيراً من فرن البوتاجاز، فالأخير لا طعم له.


كانت أمي تجلب الماجور، وهو إناء فخاري كبير وعميق، وتضع فيه كميات الدقيق بكلتا يديها، وتضع الماء الفاتر على الدقيق، وتضع الخميرة، وتعجن كل هذا بيديها القويتين، فتمتزج رائحة يد أمي بالعجين فيصبح شهيا، والأهم أن كل طعام كانت تعده كان ممتزجاً بأنفاسها الحبيبة، وبحبها الجارف لنا، وهو ما لم ولن نتذوقه في أي مكان آخر.
وبعد العجن في الماجور تغطيه بقطعة قماش (شاشة)، وتتركه لساعات حتى (كب أي اتخمر)، ونفاجأ بأن ثلث العجين الذي كان في الماجور قد ملأه عن آخره، عندئذ نتحلق حول أمي وبيد كل منا طبق به دقيق، وتبدأ أمي في تقطيع العجين وتعطينا إياه، لنصنع من العجينة الصغيرة ما يشبه البرتقالة، ونبدأ في رصه بصاج كبير، ثم بصاج آخر وغيره إلى أن ننتهي من الكمية كلها ويفرغ الماجور من العجين تماما.


وتترك أمي فراغات واسعة بين كرات العجين، وترش أعلاه وأسفله بالدقيق وتبططه لتأخذ كل كرة شكل الرغيف، وكنا نضع هذه الصاجات في شمس الصعيد العفية، فيتضاعف شكل وحجم الرغيف دون أن تمسسه نار.
وأمام الفرن البلدي تضع أمي الحطب وتشعل النيران، وبعد أن يحمي الفرن تبدأ أمي في وضع الأرغفة وتقلبها في الفرن، ليخرج العيش الشمسي برائحة لا تقاوم، وطعم شهي للغاية، ونرص العيش في أقفاص، ونعرضه للهواء قليلاً حتى لا تلتصق الأرغفة، وبانتهاء الخبز والرص في الأقفاص تأمرنا أمنا بمنح عدد من الأرغفة لكل جارة لنا، فتنال دعواتهن بالصحة والبركة وسعة الرزق، لدرجة أن أبي كان يرفض تذوق لقمة واحدة من العيش الشمسي إلا بعد أن يطمئن إلى أننا وزعنا على جيراننا منه.
وكبرنا وصرنا نحن نعد العيش الشمسي أمام أمنا، لكنه لم ولن يكون بمذاق خبز أمي التي تمزجه بالحب أثناء عمله.
وأتزوج وأستقر في القاهرة ويكبر أولادي، وزوجي أيضاً أستاذ جامعي، لكننا لا نشعر بفرحة العيد إلا في أحضان أمي وأبي، والتفاف أولادي في فرح حول جدتهم وهي تروي لهم عن ذكرياتي عندما كنت طفلة صغيرة، فتتعالى ضحكاتهم ونعيش أجمل أيام العيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى