فكر

الهجرة إلى الحبشة: عبقرية حضارية واستراتيجية نبوية

د. طارق حامد| مصر

في حركة الهجرة الأولى إلى الحبشة، تتجلى عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم الحضارية والاستراتيجية بأبهى صورها. فهي ليست مجرد رد فعل هروبي من الاضطهاد، بل هي مناورة حضارية كبرى، خطط لها العقل النبوي الواعي بهدف كسر الحصار المجتمعي المضروب على الدعوة في مكة، وفتح أفق دولي لها، وإرساء نموذج عملي للتعامل مع الأزمات عبر التحول من موقع الدفاع إلى موقع البناء والتأثير.

أولاً: الاختيار العبقري: قراءة الواقع العالمي واستثمار قيم العدل
فقد أدرك صلى الله عليه وسلم أن الصراع في مكة تحول إلىحرب استنزاف تهدف إلى إخماد صوت الحق وإعاقة نمو الجماعة المسلمة. ولم يكن الحل هو المواجهة المباشرة التي قد تؤدي إلى الاندثار، ولا الاستسلام للضغوط. فجاء القرار العبقري: تجاوز المسرح المحلي (مكة) إلى مسرح إقليمي دولي (الحبشة). وهذا تجسيد لفكر استراتيجي يبحث عن بيئة حاضنة بديلة، حيث يمكن للقوة الناعمة للدعوة أن تتنفس وتعمل. واختيار الحبشة تحديداً لم يكن فقط لعدل ملكها، بل لعدة أسباب استراتيجية:

· ملاذ آمن بعيد عن نفوذ قريش: فالحبشة أرض مستقلة لا تستطيع قريش ممارسة ضغوطها السياسية أو الاقتصادية عليها بسهولة.
· أرض ذات خلفية دينية قريبة: فالمسيحية التوحيدية هناك شكلت أرضية ثقافية لفهم مفاهيم النبوة والوحي، مما يسهل الحوار.
· بناء أول جسر للحوار الحضاري مع العالم: لقد حولت الهجرة المسلمين من مجموعة مضطهدة داخلية إلى سفراء للدعوة في بلد أجنبي، يقدمون نموذجهم الأخلاقي ويمارسون شعائرهم بحرية، مما يوسع دائرة معرفة العالم بالإسلام خارج الصورة المشوهة التي كانت تروجها قريش.

ثانياً: من الهروب من الأزمة إلى صناعة الفرصة وإدارة الرأي العام العالمي
لقد حوّل النبي صلى الله عليه وسلم محرق الأزمة إلى منصة انطلاق. فعندما ذهب المسلمون إلى الحبشة، لم ينغلقوا على أنفسهم، بل تفاعلوا مع المجتمع الجديد. وعندما لحقت بهم قريش محاولة استعادتهم، تحولت قضيتهم من قضية محلية إلى قضية رأي عام دولي تُناقش في بلاط ملك عادل. خطبة جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي وشرحه لتعاليم الإسلام كانت أول خطاب دعوي رسمي مسجل على المسرح الدولي، وأثمرت اعترافاً بحقهم في اللجوء الديني. وهذا إنجاز استراتيجي هائل: تحييد دولة صديقة لقريش (بل وتحويلها إلى حليف معنوي للضعفاء).

ثالثاً:العبرة الحضارية والتطبيق المعاصر: دروس في إدارة الأزمات والتواصل العالمي
تقدم الهجرة إلى الحبشةمنهجية حضارية يمكن تطبيقها في عصرنا الحاضر:

1. الخروج من الإطار الضاغط : عندما تشتد الضغوط المجتمعية أو السياسية أو الإعلامية المحلية على فكرة أو حركة إصلاحية، فإن الحكمة تقتضي أحياناً البحث عن منصات إعلامية أو فكرية أو جغرافية بديلة خارج نطاق التأثير المباشر للقوى المعارضة، لنشر الفكرة وشرحها بحرية. وهذا ما نراه اليوم في استثمار المنصات الدولية والإعلام الجديد والتحالفات العالمية لدعم القضايا العادلة.
2. التحالف مع القيم العالمية المشتركة: كما تحالف النبي مع قيمة “العدل” عند النجاشي، يمكن اليوم للدعوات الإصلاحية أن تبني جسوراً مع المنظمات والمجتمعات التي تتبنى قيماً مشتركة مثل حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، وحرية الاعتقاد، مظهرةً توافقها مع هذه القيم العالمية السامية.
3. تحويل اللاجئين والمهاجرين إلى سفراء: الهجرة القسرية اليوم بسبب الحروب أو الاضطهاد يمكن أن تتحول – بوعي واستراتيجية – من مأساة سلبية إلى فرصة لإبراز الصورة الحقيقية للمجتمعات المهاجرة، وعرض نماذجها الوسطية والتعريف بقيمها، إذا تمت تنمية وعي الأفراد وتأهيلهم ليكونوا سفراء ثقافة وحضارة.
4. الدبلوماسية الناعمة والحوار الحضاري: كانت هجرة الحبشة أول تطبيق عملي للدبلوماسية الناعمة في الإسلام، حيث استخدم المسلمون القوة الأخلاقية والمنطق والحوار الهادئ لكسب التعاطف والدعم. وهذا درس بليغ في عصر الصراعات، يؤكد أن الحوار المبني على القيم المشتركة والقصة الإنسانية المؤثرة أقوى تأثيراً من المواجهة العدائية.

خلاصة:
هجرة الحبشة كانت مشروعاً حضارياً متكاملاً أطلقته العبقرية النبوية. لقد حوّلت التحدي إلى فرصة، والضعف إلى قوة، والجماعة المحاصرة إلى سفراء دوليين. لقد علمتنا أن المواجهة ليست دائماً بالصدام، بل أحياناً بالانتقال الذكي إلى ساحة أكثر خصوبة للعطاء، وبالتحالف مع منطق الحق والقيم الإنسانية أينما وجدت. وهي تبقى نموذجاً إلهامياً لكل من يواجه ضغوطاً مجتمعية طاحنة، يدعوه إلى عدم الانكفاء، بل إلى الخروج بفكرته إلى آفاق أرحب، حيث العدل والحرية، ليبني منها منصة جديدة يسمع فيها صوته، ويؤسس منها لجسور تعاون تسهم في بناء الحضارة الإنسانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى