فكر

“أبوعلة”.. والشعر من منظور الكائن الحي التطوري

دكتور حسن مشهور | السعودية

لايملك من يعرف ولو النزر اليسير من علم اللغة العربية والنقد الأدبي والثقافي إلا أن يشهد بشاعرية الأديب الكبير “حسن ابوعلة”، هذا الرجل الذي وإن اختلف معه البعض في موقفه الذاتي ورأيه المتصلب من شعر التفعيلة وقصيدة النثر، إلا أنهم لايملكون إلا أن يحبوه على المستوى الإنساني، وأن يحترموا منه هذا الإخلاص والالتزام بتوجهه الأدبي وتفانيه في الدفاع عن معتقده الأدبي فيما يخص القصيدة العروضية، بوصفها من وجهة نظره بأنها الشعر كما ينبغي أن يكون، وإن ماعداها هو مما لايمت للشعر العربي بأي صلة.
وهذا الرأي الذي قد عبره عنه مجددًا في أحد اللقاءات عبر إحدى وسائل الإعلام الحديثة قد جدد لدى معارضيه من أنصار الأدب الحديث ذات الاحتجاج ورفع عقيرة بعضهم بالشكوى، ومن هنا قد وجدت نفسي وأنا أكتب هذا المقال، أسعى جاهدًا في محاولة مني للموازنة بين الشاعر حسن أبو عله وخصومه الأدبيين، بعبارة أخرى هي محاولة أقرب ماتكون للتناصيه الفكريه مع كتاب القاسم الآمدي “الموازنة بين أبي تمام والبحتري”.
كانت معرفتي الأولى بالشاعر حسن ابوعلة حين تمت دعوته منذ أكثر من عقد من الزمان لإحياء أمسية شعرية بنادي جازان الأدبي “جمعية جازان الأدبية” الآن. وكنت حينها أشرف على لجنة المطبوعات بالنادي، فكنت أول من استقبله وتحدثت معه قليلًا قبل الولوج لقاعة الضيوف بالنادي، وتحدثت معه لاحقًا، لأجد منه كل نبل خلق وتواضع، وكمًا هائلًا من الإنسانية والطيبة والسماحة. وكان يحنو على جميع من كان بالنادي، كما يحنو الأب على أبناءه. وهذا النبل والرقي الأخلاقي الأبوي منه قد أكده لي الأديب ناصر النهاري الذي كان في الماضي أحد طلابه في مقاعد الدرس، وهو أحد المثقفين الفاعلين في صالون “مساءات المحبة” الذي أسسه ويشرف عليه الأديب والوجيه جنيد خواجي.
ومن هنا تطل علينا أسئلة بعينها، من ضمنها: إلى ماذا يمكن إرجاع رأي البعض المتصلب المتعلق بالكيفية المثلى التي ينبغي أن تكتب وفقها القصيدة العربية؟ هل لنوع التعليم التقليدي الذي تلقوه وتلك الآراء المحافظة التي استقوها في صغرهم وصدر شبابهم ممن تلقوا التعليم على أيديهم؟ أم هو لنوع التذوق الأدبي الذي يستبطن عقلهم اللاواعي، بحيث يفضلون أنواعية شعرية عن غيرها؟
أم إن هؤلاء جميعهم -الذين لايؤمنون بضرورة تطور الأدب ومن ضمنه الشعر- ينطلقون من فهم لاواعي بأن الشعر في صورته الأولى وحين تشكله الأولي قد كان وفق القوالب البنائية التي قال فيها الحارث بن حلزة، ولبيد بن ربيعة، وامرؤ القيس قصائدهم؟ بحيث إن هؤلاء الشعراء -وأعني بهم امرؤ القيس وطرفة بن العبد وابن حلزة، ومن سبقهم منذ قرون ومع النشأة الأولى للغة العربية في أعماق التاريخ قد كانوا ينشدون قصائدهم وفق عروض الشعر (ميزان الشعر العربي) الذي كانت ولادته الكتابية على يد العالم النحوي الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري الأزدي.
في حين إن المنطق العقلي يقول بأن الشعر الذي وصل إلينا في قوالب شعر المعلقات وحوليات زهير بن أبي سلمى، قد كان يمثل اكتمال اللغة العربية في الفاظها وتراكيبها وبلاغتها ووصولها لقمة نضجها التعبيري. ولذا فالشعر الذي تولد عن اللغة العربية في شكلانيتها البدائية البسيطة في مراحل تشكلها البنائي الأولي والأوسط -إن كان هناك شعر أصلاً- أو فلنقل التعبير الغنائي القولي لم يكن يشبه بأي حال القصيدة العربية التقليدية التي عرفناها على لسان الراعي النميري والأخطل وأوس بن حجر التميمي.
فمن درس كمتخصص علم اللسانيات، وتعمق بقراءته الذاتية في علم اللغة التاريخي والصوتيات واللغويات التقابلية والتطبيقية، باللغة الإنجليزية أو أي لغة عالمية أخرى، لابد وأن يكون قد طالع تلك الدراسات اللغوية والأنثروبولوجية التي ترى بأن الإنسان لم يكن يملك لغةً بالمعنى الذي نعرفه اليوم، بل كان كل مالديه هو عبارة عن أصواتًا بسيطة نابعة من الاستجابة للبيئة وللحاجات الأساسية كتحذير رفقاءه أثناء خروجهم للصيد من الأخطار، والتعبير عن مشاعر الفزع أو الفرح، أي قد كانت لديه مايمكن تسميته بلغة الحاجة والغريزة والتي تعد البدايات الصوتية لأي لغة، والتي هي تشبه إلى حد بعيد الإيماءات الصوتية، بحيث تمثل رمزًا أوليًا يرتبط مباشرةً بالموقف الذي يطلق فيه، دون امتلاك القدرة على وصف ما هو أبعد من اللحظة الآنية المعبر عنها صوتيًا.
إلا إنه مع تعدد واتساع وتنوع التجارب الإنسانية وتعقد أنماط الحياة المعاشة، فإن الأصوات البدائية لم تعد كافية. ومن هنا فقد بدأ الإنسان بتشكيل مقاطع صوتية أقرب إلى المفردات البسيطة التي ترتبط بأفعال محدودة وأشياء بسيطة جدًا، ومن هنا بدأت مرحلة الانتقال من الصوت إلى الكلمة، أي إنه إعلان ثوري بولادة الدلالة بحيث إن اللغة قد بدأت تغادر مربع الغريزة لتدخل نطاق الإدراك والاختيار.
ومع ظهور الكلمات ونمو المفردات، فقد ظهرت الحاجة لترتيبها في نسق يسمح لهذا الكائن الإنساني بنقل أفكار هي أكثر تعقيدًا من مرحلته التشكيلية العقلية البسيطة السابقة، جراء حالة من التطور العقلي المرحلي – والبسيط إلى حد ما في تقديري – الذي شاب وخالط عقله الفاعل، ومن هنا فقد بدأ مايمكن لنا توصيفه بأنه البناء الأولي للقواعد، أي عملية الانتقال من الكلمة إلى الجملة. ويكاد يجمع علماء تاريخ اللغة بأن هذه الجمل البدائية قد كانت تتسم ببساطة التركيب، فهي في الغالب قد كانت تعتمد على ترتيب ثابت للكلمات يعوض ذلك الغياب للقواعد الدقيقة. وهي مرحلة تعبيرية أجدني أضع فيها الإنسان في التقسيمة الأولى “الاحتياجات الأساسية”، أي المربع الأولي لهرم إبراهام ماسلو للاحتياجات الإنسانية.
ومع التتالي الحياتي، وحينما جرت تحولات عقلية قد طالت فكر الإنسان وغيرت في ثقافته الإدراكية للوجود والموجودات، فإن بنية لسانه “اللغة” قد طالها بالتالي تحولات بعينها، بحيث قد أضحت قادرة على تشكيل الجمل المركّبة والعبارات النوعية الدقيقة، ومن هنا فقد جرى تحولها من أداة تواصل إلى وعاء حضاري، وهي نقلة أحب أن أصفها بأنها نقلة نوعية للغة من مجرد أداة للتفاهم العملي إلى منظومة ثقافية تعبر عن المشاعر والتجريد والتجربة الإنسانية المعقدة بكافة تفصيلاتها وتمفصلاتها.
وفي هذه المرحلة المفصلية من عمر الإنسان، كانت الولادة الأولى للأدب، وبرز الشعر وأنواع النثر كأشكال تعبيرية تعد هي الأرقى في عملية التواصل الإنساني. وأجدني أميل للقول بأن الظهور الأولي للقصيدة لم يكن وفق شكلها الذي عايناه في الشعر الجاهلي وصدر الإسلام، وإنما كانت لدينا أصوات إنشاديه أقرب مايكون لأن نصف من يطلقها بأنه “يولّش”، وهو نوع إنشادي مندثر قد كان شائعًا بالماضي في الجنوب وخاصة منه منطقة جازان، حينما تستثار المشاعر الوجدانية لأي فرد، ومن سيرورة الأيام فقد بدأ بعض الأفراد في تركيب المفردات على هذه التعابير الصوتية الغنائية، لتستمر عملية التطور الموسيقي الصوتي للغة في شكلانيتها الوجدانية لتظهر علينا في قوالب القصيدة العروضية، وقد يكون للغناء العربي لاحقًا بأدواته البسيطة “كالطنبور”، أثر ودور فاعل في تعزيز وجودية القصيدة العروضية.
ولو أدرك شعراءنا ومجمل أدباءنا هذا الأمر المتعلق بوجودية اللغة، الذي قد يكون العديد منهم قد قراؤوه، ولكن لم تتم عملية استيعابه لتقبلوا أي تحديث قد يطال الشعر العربي، ونظروا إليه باعتباره أمر هو من خصوصية أي لغة خلقها الله عز وجل.
بعبارة أخرى أي إن مايراه هؤلاء المتشددين لرأيهم كمقدس لغوي (القصيدة العروضية)، إنما هي مجرد تطور شعري آخر للشعر العربي، فشعر التفعلية، وقصيدة النثر “النثيرة”، هي تطورات مرحلية تاريخية ذات منطلق أدبي لابد أن يتقبله المثقف العربي، سواء كانت وجوديته في الساحة الأدبية العربية جراء توليدها الذاتي له أو جراء المثقافة مع الآخر، فحري بناء تقبله وجعله إلى جوار القصيدة العربية العروضية.
فاللغة بوصفها كائنًا حيًا إن اكتملت، فإنها لن تتوقف عن التغير؛ فهي تعد نظام حي يتطور مع تطور المجتمعات، وينمو مع نمو المعرفة الإنسانية. بحيث تتبدل مفرداتها، وتتشكل عنها لهجات جديدة، وتنشأ منها أساليب مبتكرة في التعبير، ويستمر الأدب في إعادة تشكيلها عبر القصيدة والقصة والرواية والمقال، وأنواع التعبير اللغوي الأخرى.
ومن هنا يطل سؤال ختامي آخر، هل نحن بحاجة في الوقت الراهن لرأي متصلب يخص مايتوجب أن تكتب وتشكل وفقه القصيدة العربية، أم ينبغي لهذا الرأي أن يركن جانبًا في هذه الألفية الثالثة، وفي عصرنا الراهن؟ في تقديري نحن بحاجة لهكذا رأي وبحاجة لأشخاص يحملون ذات الرأي المتعلق بالبناء المفترض وتشكيل القصيدة الذي يحمله شاعرنا الكبير حسن أبوعلة فرأيه في تقديري ظاهرة صحية أدبية، وفي ذات الوقت نحن بحاجة لآراء أنصار التحديث الشعري، لأن هذا التضاد يتولد عنه أمرين، أحدهما يتعلق بسعي فريق للمحافظة على القصيدة العمودية والكتابة فيها والحرص على استمراريتها في الواقعية التعبيرية العربية المطالعة، وهي محافظة على إرث وحرص على وجود، وهو على قدرٍ عالٍ من الأهمية يشكر عليه الشاعر حسن أبوعلة ومن سار على رأيه، وفي ذات الوقت نحن بحاجة للرأي الآخر الذي ستتولد عنه إحداث نقلات في الشعر والأدب على عمومه يجعل الشعر العربي يحدث انطلاقته التي ستجعله مستقبلًا في حالة حضور وبروز على المستوى التنافسي الثقافي العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى