عزلة كورونا ضارة ألهبت حماسة الشعر

وسام عبد الحق العاني | شاعر ومهندس عراقي

لم أتأكد من حماستي في الشعر إلا بعد أن حُشرت في هذه الإجازة الإجبارية حشراً، ولم أكن أعرف أن بإمكاني كتابة قصيدة كاملة في يوم واحد، وأنا الذي كنت أحتاج إلى شهر تقريباً لأُتمَّ قصيدة واحدة، ولا عجب عندما تعلم أني لم أكن أملك من قماش الوقت سوى مترين (أو ساعتين) يومياً أكتب عليهما (أو فيهما) ما أدعيه شِعراً.
أنقل لك بتصرف ما ذكره الأستاذ الأمهر (عارف حجاوي) في كتابه (أوّل الشعر) عن فراغ كل من (أبي تمام) و (روكارت) الألماني، وكيف استفادا من العزلة في تقديم منتج أدبي مهم ظل يشغل أهل اللغة ومريدي الشعر قروناً من الدهر.
(فريدريش روكارت) شاعر ألماني، يعده كثيرون رابع العظام في تاريخ الشعر الألماني كله بعد غوته وهايني وريلكة، أوتي قدرة هائلة على التحكم في اللغة الألمانية وكان يتقن ثلاثين لغة كما ورد في (موسوعة المستشرقين)، بينما تصر ويكيبيديا الألمانية على أنه كان يحسن أربعاً وأربعين لغة، ويزيدنا (هيرمان كراينبورغ)، القيم على أرشيف روكارت، عجباً إذ يزعم أنه أتقن خمسين لغة.
انصرف روكارت إلى ضيعة ورثتها امرأته، وقعد فيها يؤلف، حتى ترجم مقامات الحريري بما فيها من الألاعيب اللغوية ونقلها إلى لغته، وجعل ترجمته الألمانية للمقامات مسجوعة من أولها إلى آخرها، كما ترجم أشعار امرىء القيس، وبعد موته نشروا له ترجمة لثلاثة أرباع القرآن الكريم.
وترجم الحماسة لأبي تمام، وفي ترجمتها حاكى النَظم العربي في بحوره وتفعيلاته وقوافيه، فتراه في القصيدة بعد القصيدة يصنع حاشية عروضية يحلل فيها الوزن العربي مستعملاً إشارات العروض كما نعرفها في العربية، على ما بين اللغتين من اختلاف جارف في توالي الصوامت والصوائت، ومن افتراق في وزن الشعر. وشقي روكارت وهو يبحث للحماسة عن ناشر، وأخيراً وبعد خمس عشرة سنة نشرها في شتوتغارت عام 1846 في مجلدين.
ولا يخفي عليك كيف أن أبا تمام، وجد نفسه محشوراً في إقامة جبرية، تشبه ما عندنا اليوم (مع فارق الانترنيت الذي يأتيك بما تشتهي من الكتب وأمهاتها بنقرة زر)، حينما نزل عند صديقه أبي الوفاء ابن سلمة في همذان غرب إيران، وبدأ الثلج يتساقط ودرجة الحرارة هناك من نوفمبر إلى مارس تحت الصفر، والثلج يقطع الطريق عادة، فلم يكن أمام أبي تمام سوى المكوث لحين انحسار الثلج، وفتح له مضيفه خزانة كتب عامرة يتسلى بها، فكانت الحماسة التي جمع فيها نحو ثمانمائة وثمانين قطعة من أشعار القدماء المغمورين.
لا شك أن أجيال القرن الواحد والعشرين ومن تبقى من متأخري القرن العشرين، ولأسباب كثيرة لا يتسع المقام ولا المقال لشرحها، لا يجدون في أنفسهم الرغبة للانقطاع للكتابة والتأليف والمشاركة في صناعة منجز ثقافي يخدم الإنسانية كما فعل صاحبينا، أو كما فعل أبو العلاء حين اعتزل الناس في بيته لخمسين عام أو أكثر.
عن نفسي كتبت ما يقرب من إثنتين وعشرين قصيدة في شهرين، وهو ما أكتبه عادة في سنتين. فماذا عنك؟
نسيت أن أخبرك، أن روكارت هذا، وعندما نزل الثلج في أبريل على غير عادة، نظم ثماني وثلاثين قصيدة، فتأمل.
بالمناسبة، هل انتبهت أن روكارت انتظر خمس عشرة سنة لينشر ترجمته للحماسة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى