بين النقد الحداثي والنقد الأدبي

طاهر العلواني | كاتب مصري

اعلمْ – صحبكَ التوفيقُ في مباغيك، وأتمَّ نعمتَه عليك وصيانَتَه لك – أنَّ العلومَ بأهلِها أشبهُ مِنَ النهارِ بالنهارِ؛ فيهم وشجتْ أعراقُها، وعليهم عطفتْ أغصانُها، فلا تمرُّ بساحتِهم شبهةٌ، ولا يرتعُ حولَهم خطأٌ، وكيف يكون، وهم الذين ميّزوا ما احلولى وعذبَ مما املولحَ وخبثَ؟ فلا يستقيمُ في عقل عاقل أن يفغروا بمنطقٍ فَما، أو يبلُّوا بمدادٍ قَلَما غيرَ مُتَبَصِّرِينَ، ولا يمشي لمن له مسكةٌ مِن عقل وعُلقةٌ بالعلم أنْ يظنَّهم جاهلِين بمواطئ الأقدامِ عند الاختيارِ، ومَراسمِ الإقدامِ عند التزييف، ولا يذهبُ الوهمُ إلى أنَّ كلامَهم صورةٌ لا حياةَ لها، أو تماثيلُ لا روحَ فيها، إلا بمَن كانت أُذُنا قلبِه خطلًا.

هذا، ومِن أجلِّ العلومِ عند أهلِ الإسلامِ علما الحديثِ والأدبِ؛ هما حصنُ الدينِ الذي يحسرُ دونَه الناظرُ، ويمتنعُ على الطلبِ والطالبِ، فلمْ نَزِدْ على تعاقُبِ الأيامِ بعزِّهما إلا صيانة، وتناهيًا في الحصانة، وكيف لا، وقد شيّدَ أهلُهما مبانيهما حتى انتطقتْ بالجوزاءِ، وناجتْها بروجُ السماء؟!

وقد جرتْ عادةُ هذين العلمَين كعادةِ غيرهما من العلومِ؛ منها أبوابٌ يعرفُها العاميُّ والعالمُ، وأبوابٌ لا يُدركُها إلا العلماءُ، وأخرى يعزبُ فهمُها إلا على من اقتدحَ زنادَ العقلِ، ووُلِدَ في طالعِ الكمالِ، ويعتقمُ صوابُها إلا على مَن بايعَتْه يدُ الفطنةِ، وهذا البابُ هو باب العلل في الحديث، والنقد في الأدب.

أذهبُ أبوابِ الحديثِ في الصعوبةِ، وأعرقُها في الغموضِ، حتى إنه لمْ يتكلَّمْ في هذا البابِ إلا الواحدُ بعدَ الواحدِ، وحتى كانَ العالمُ بعللِ الحديثِ هو عينَ زمانِه، ونادرتَه ونُكتَتَه وواسطةَ عقدِه.

إن هذا البابَ مِن ذهابِ منازحِه في الاضطرابِ كلَّ مذهبٍ ظنَّ الجاهلون أن أهلَه كُهَّانٌ؛ حتى قال عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ: إنكارُنا للحديثِ عندَ الجهالِ كهانةٌ.1 وقال الحافظ: ولا يقوم به إلاّ من رزقه الله فهمًا ثاقبًا، وحفظًا واسعًا، ومعرفةً تامةً بمراتب الرواة، وملكةً قويةً بالأسانيد والمتون، ولهذا لم يتكلم فيه إلاّ القليل من أهل هذا الشأن. 2

وقول ابن مهدي – رحمه الله -: عند الجهّال، دلَّ على أن أهلَ العلل لا يقولون لحديث: هذا مُعلٌّ، إلا وَهُمْ يعلمون موضع العلّة فيه، إلا أنهم لمّا كان في الأذهانِ وفرةٌ، وفي الهممِ سموٌّ، وفي السعي إليه لذَّةٌ، مع تفنُّنِهم في طلب غوامضه وعوائصه، كانت الإشارةُ عند أهله كالبرهان؛ فمتى قال أبو حاتم: هذا خطأ، فإنه يعلم يقينا أن أهل الحديث يعرفون موضع الخطأ فيه بأبدَهِ حجَّةٍ، وإنما ظنَّه الجاهلون كهانةً لغموضِ مسلكه؛ من حيث إنَّه يحتاجُ إلى رحلة طويلة يقطعها المرء في المعرفة بالرجال والتأريخ والبلدان، مع اليقظة التامّة والبصيرة النافذة والفهم الواعي والنظر الثاقب كما قال العلّامة اليماني رحمه الله.3

وقد ظلَّ أهلُ هذا العِلمِ الجليلِ على ألبقِ إشارةٍ، وأصحِّ قريحةٍ، حتى اجتنحَ على العقول الضعفُ، واستولى على القرائح الفسادُ، فعمَدَ أهلُه إلى تفصيلِ ما كانوا يتجانفون للإشارة إليه؛ فبعثَ اللهُ الإمامَ أبا الحسنِ عليَّ بنَ عمرَ الدَّارَقُطْنِيَّ شارحًا عنهم تلك العللَ التي منها كان الضعفُ، وعليها التعويلُ في نقد الإسنادِ وردِّه، وقبولِ الحديثِ وضدِّه، حتى استقامَ للمتأخّرين من المقدِّمة إلى السَّاقةِ؛ كحديث “البيِّعان بالخيارِ، ما لم يتفرَّقا”، فقد جاء من طريق الثوري وشعبة عن عمرو بن دينار عن ابن عمر، قال الدارقطني: وكلاهما وهم، والصحيح: عن الثوري، وعن شعبة، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ.4 فكانت هذه أولَ لبنة لشرح العلل، ثم تواتر العلماء بعده على التوسُّعِ في شرح العلل، كما فعل أبو يعلى الخليلي في (الإرشاد) بقوله: هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان عنه عن عبد الله بن دينار5, فلا يذكرون حديثًا مُعَلًّا إلا يستقصون في شرح علله. وعلى هذا مشى المتأخرون؛ كالعراقي وابن حجر والزيلعي وغيرُهم.

وإذا أنتقلنا إلى علم النَّقدِ الأدبيِّ وجدناهما كوقع الحافر على الحافر؛ إذ كان المتقدمون من أهلِ هذه الصناعةِ أيضًا يرون التفصيل من فضول الكلام، فكانوا يكتفون بأن يقولوا: هذا أجودُ من ذاك؛ وانظر إلى الآمدي بعد أن أنشد قولَ أبي تمام:

ترد الظنون به على تصديقها**ويحكِّمُ الآمالَ في الأموال

وقولَ البحتريِّ:

غمر النوال إذا الآمال أكذبها**ثمادُ نَيل من الأقوام ضحضاح

حيث قال: بيت أبي تمام ألطف معنى في تحكيمه الآمال في الأموال، وبيت البحتري اكثر ماء ورونقًا.6 فلأي شيء كان هذا أكثر ماء ورونقًا، وذاك ألطفَ معنًى؟!

ثم جاء الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني، فشرحَ في عَلَمَيْهِ الشَّريفَين دلائلِ الإعجازِ، وأسرارِ البلاغةِ الوجوهَ التي بها تكون المزيّةُ، والعللَ التي منها تحصل الفضيلةُ لكلامٍ على كلام، والفروقَ التي بها سبقَ كلامٌ كلامًا؛ وانظر إلى نقده لبيت ابن الدمينة:

تعاللتِ كي أشجى، وما بكِ علَّةٌ**تريدينَ قتلى، قد ظفرتِ بذلك.

وتعليلِه لجودة البيت بفصل الشاعر (تريدين قتلى)؛ لأنها واقعة موقع التعليل لما قبلها، وباستئنافه (قد ظفرتِ بذلك)؛ لأنه بمنزلة الجواب. 7

وأنشدَ في أسرار البلاغة8 أيضا قولَ ابن بابك:

وأرضٍ كأخلاقِ الكريمِ قطعتُها**وقد كحلَ الليلُ السماكَ فأبصرا.

فجعل موضع المزية فيه قولَه (وأرضٍ كأخلاقِ الكريم)؛ إذ لما كانت الأخلاق توصف بالسعة والضيق، حسُنَ أن يشبِّهَ الشاعرُ سعةَ الأرض بأخلاق الكريم. ثم تواترتْ عادةُ العلماء بعده على ما انتهجه في كتابَيه؛ كالزمخسريِّ الذي أنشأ أثالَه الشامخ (الكشاف) على نظرية النظم، ويحيى بن حمزة العلوي الذي احتفى بهما كلَّ احتفاءٍ في (الطراز)، وكلّ من جاء بعده رحمه الله.
إنَّ الذي قامَ به الإمامان عبدُ القاهرِ الجرجانيُّ والدارقطنيُّ مِن حَلِّ المعقودِ، ونشرِ المطويِّ، وإثارةِ المُكْتَمَنِ لشاهدُ عدلٍ على تبحُّرِهما في فى علوم الأدب والحديث، وتمكُّنهما من جودة الحفظ وقوة النقد، بما أخرجاه من الجريمة9 نخلةً باسقة الثمر؛ تعاقبَ الناسُ عليها أفواجًا، وأقبلوا إليها أرسالًا. إنَّه الاختراع النازعُ إلى أكمل غاية، حتى استوجب الشكر العميمَ من الناسِ، والأجرَ والنعيمَ من اللهِ؛ فقد كان كلاهما لأهله كنوحٍ – عليه السلام – للبشر في استحداث ذرّيةٍ بعد ما هلك الناس في الطوفان العظيم، فَهُمْ على أثرِهما أعضبُ لسانا، وأعذبُ بيانا، وأبلُّ ريقا، وأرقُّ حاشيةً، وأفصحُ لهجةً، وأشدُّ عارضةً، وأصحُّ قريحةً، وأحصفُ عُقدةً، بما أودعاه كتبَهم، ونمَّقتْه أيديهما؛ فجزاهما اللهُ عن الإسلام وأهلِه أحسنَ الجزاء، وجعلَ نصيبَهما من عملِهما أَوْفَرَ النَّصيبِ والإجزاء.

1_علل الحديث لابن أبي حاتم (1/10)
2_ النخبة (43)
3_النكت الجياد (1/10)
4_علل الدارقطني (13/168)
5_(1/341)
6_الموازنة (3/125)
7_دلائل الإعجاز (90)
8_أسرار البلاغة (230)
9_الجريمة: النواة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى