سراييفو قصة حصار وحب

نسب أديب حسين | فلسطين

داخلني بعض التردد حينما تصفحتُ رواية “سراييفو قصة حصار وحب”، وأنا أتأمل حجمها الذي يبلغ 522 صفحة، متسائلة هل حقا أريد أن أخصص وقتا لرواية بهذا الحجم، ولكاتب أجهله؟ لكن ولكوني لم أقرأ سابقًا عن حصار مدينة سراييفو الذي امتدّ ثلاثة أعوام وعشرة شهور (بين نيسان 1992 وشباط 1996)، حسمتُ الأمر بقراءتها. وسرعان ما أدركت حسن الاختيار، حتّى داخلني ندمٌ شديد أنّني لم أقرأها مذ اقتنيتها قبل عدّة سنوات.

أخذتني هذه الرواية في تجربة ورحلة فريدة، جعلتني أتعرف على تركيبة وتعددية المجتمع البوسني في مدينة سراييفو، عاصمة البوسنة والهرسك التي أعلنت عن استقلالها عن يوغسلافيا، فتعرضت لهجوم جيش جمهورية صرب البوسنة الذين فرضوا حصارًا على العاصمة، وهاجموا الأكثرية المسلمة والأقلية من الكرواتيين، فيما وجد سكان المدينة الصربيون أنفسهم في مواجهة مع أبناء جلدتهم، هذا عدا عن وجود الكثير من العائلات المتعددة عبر الزواج المختلط. ليُبين لنا الكاتب البوسني أدين كريهيتش الكثير من أسئلة الهوية ونظرة السكان إلى بعضهم البعض، وكيف بدأوا ينتبهون فجأة إلى أصول وديانة كلّ منهم، الأمر الذي لم يكن ذا أهمّية قبل الحرب. ويصطحبنا كريهيتش إلى تفاصيل أحداث الحرب التي نشعر أنّه عاشها، وسير عدّة معارك ومواجهات، وتغيّر ظروف الحياة اليومية للسكان بانقطاع الحاجيات الأساسية، من الأغذية المتنوعة، التي أصبحت نادرة وبأسعار باهظة في السوق السوداء، وانقطاع الماء والكهرباء، ليحتاج السكان تكبُّد مشاق نقل الماء إلى بيوتهم يوميًا، معرضين حياتهم للخطر من القصف الصربي المستمر. تفاصيل لربما بعضها ما كانت لتلامس قلبي، وتجعل الأحداث ترسخ في ذاكرتي لو قرأتها في كتاب تاريخي، كما فعلت هذه الرواية، التي وضّحت عن طريق متابعة خمسة أبطال رئيسيين، وخصوصًا العاشقين ليلى وياسمين (اسم ذكر)، ما يمكن أن تُفقدنا الحرب من ظروف وحاجات كانت طبيعية دونها، لتتحول فجأة حلمًا صعب المنال لتغير دروبنا وأسلوب تفكيرنا.

بين مشاعر الحب واللّهفة، والخوف من الموت والرغبة في الحياة، وبين السعي لتحرير الوطن، والخيبة من القيادات، والشعور السائد في الفترة الأخيرة من الحرب بين الجنود، وهم أربعة أبطال الرواية، من كونهم أداة لأطماع السياسيين والضباط، يحاربون في حلقة مفرغة، ورؤساءهم لا يريدون حقًا فك الحصار عن المدينة. في الوقت ذاته تمتلك الرواية الكثير من روح الإثارة والفكاهة خصوصًا ببطلها حارس ذاك الشاب كثير الكلام، والبطل المغامر، والذي في بعض مغامراته يجعل القارئ غير قادر على ترك الكتاب حتّى ينتهي من المشهد الذي يقرأه.

نعم تصطحب هذه الرواية قارئها إلى زمن وبلد خارج جغرافيته قد لا يعرف عنه إلا اسمه، ليدخل تدريجيًا في تفاصيله، التي يعيشها فيضحك مرّة ويحزن في أخرى.. ويقف أمام مشاهد إنسانية يعيد قراءتها مرّات ومرّات، ويشعر بألم شديد وفقد كبير، وهو يشهد موت قسم كبير من أبطال الرواية، ضمن توتر الحرب وويلاتها حتّى اللحظة الأخيرة من الكتاب. الذي ينتهي بإغلاق دائرة، افتتحت في الصفحات الأولى عام 1995، ثم توقفت ليكون الاسترجاع الفني للأحداث من عام 1992 وبداية حصار الصرب للمدينة، لتسير الأحداث حتى ذات اللقاء الذي بدأته في الصفحات الأولى، وتغلق وسط تساؤلات، وبعض الفضول، ورغبة لو استمرت الرواية أكثر إلى زمن السلم.

قدّم المترجم عبد الرحيم محمد ياقدي الذي كتب اسمه فقط في صفحة هوية الكتاب دون الغلاف الخارجي، خدمة كبيرة بترجمة هذه الرواية الرائعة والمهمّة للّغة العربية. ترجمة امتلكت في معظم جوانبها ما يستحق الكثير من الثناء التقدير، وفي جوانب أخرى حملت بعض العثرات التي أمكن تجاوزها لو تمّت مراجعة أكبر للكتاب. إذ ممّا يُحسب للمترجم إيراد الهوامش في سياق الرواية للتعريف بالكثير من التعابير التي ظهرت من أسماء الأماكن، ومواقع، وأساليب قتالية وغيرها، الأمر الذي قدّم خدمة كبرى لفهم النص، لكن من جانب آخر كثّر استخدام الفعل الماضي “كان” خلال الترجمة، وهناك بعض الصياغات التي أمكن أن تكون بلغة أقوى وأكثر بلاغة، وكذلك كثُرت الأخطاء المطبعية في الرواية، الأمر الذي أمكن تفاديه، لو تمّت مراجعة لغوية أعمق.

المتعة والسعادة التي غمرتني على أثر قراءة هذه الرواية الصادرة عن دار مدارات عام 2013، دفعتني للبحث عمّا كُتب عن هذه الترجمة، وللأسف لم أجد إلا القليل، الأمر الذي لا يفي هذه الرواية حقّها. كذلك لم أوفّق في الوصول إلى معلومات أوسع عن كاتبها “أدين كريهيتش” باستثناء ما ورد على الغلاف أنّه إعلامي بوسني، وهذه روايته الأولى. فإن كان الأمر كذلك، فهو يستحق الكثير من التقدير، على إتقانه الحبكة الروائية، وإجادته تقديم الكثير من المعلومات التاريخيّة بعيدًا عن السرد الصحفي، وبما أنّ الرواية تحاكي واقع الكثير من مدننا العربية التي شهدت الحروب الأهلية في السنوات الأخيرة، فهي تستحق اهتمام القراء العرب، لأنّها أهل لذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى