” كوفيد 19 والنصف” للشاعر  ” مزعل المزعل”

زكريا كردي – باحث في الفلسفة | سورية – أمستردام

مع إنجازه لمونودراما ” كوفيد 19والنصف”، نكون قد وصلنا واقعياً الى بداية فكرية جديدة مع ” شاعر الضرورة المُقلقة للكثيرين “مزعل المزعل”، كما يطيب لي أن أسمّيه. بالنسبة لي ولذائقتي الأدبية البسيطة، فإنّ التعبير الشعري عند “مزعل المزعل” يبدو لي كحدث دال على المطلق في التاريخ، الذي يستصرخ فينا أنبل معاني الوجود الإنساني، وأهم مزايا الإنسان الحق، ألا وهي مزية ” الصدق مع الذات “.. وعدم التكلف في قول الحقيقة حين يأتي أوانها.. كما هي العادة، لجأ الشاعر في منجزه الأدبي الجديد ” كوفيد 19 والنصف” إلى الرمزيّة المُبسّطة في مفرداتها، تماماً كما فعل ذلك في كافة منجزاته الأدبية السابقة و دواوينه الشعرية: “كل من عليها خان”، ” اللون الموتنائي”، “قهوتي والتتار وأنت”، و.. و إلخ.. حيث عبّر من خلالها عن فهمه الخاص جداً، وشعوره الذاتي المحض، إزاء ما جرى ويجري في أعماقه، وفي أرجاء وطنه، ومجتمعه السوري المكلوم.. عاكساً بلغته الشعرية الخاصة، تجاربه الغرائبية وأفكارها المُتغيرة.. وباثاً من خلال هذه القصائد القصيرة جداً، لواعجه المُسرفة في الامتعاض والحنق الشديد.. تارةً على هيئة مصوغات أقوالٍ مُحكمةٍ ترفلُ بمشاعر فياضةٍ جارفة، وتارةً على هيئة شذرات و بيانات لغوية عصرية، تفصح حكمتها الواضحة، عن صلب مواقفه الآنية والشفيفة، من أحداث الواقع المعيش والأليم من حوله.. كما هو الحال في أعماله السابقة، جاء إبداعه في ” كوفيد 19 والنصف” مليئاً بالتلميحات والمأثورات اللغوية المتداخلة في أزمانها، والشائكة في دلالاتها.. مُستخدماً الإيحاء بوصفه حال للتعبير غير المباشر، ومعبراً من خلاله عن كثير من الأحوال النفسيّة الخفيّة، التي لا تقوى اللغة العادية المباشرة على توصيلها، بوصفها أداة توصيل للتفكير، دون الصدام التام مع دهماء الواقع الثقافي، وسفلة الفكر اليابس.. لذلك جاء عموم المقول في شعره المسرحي الجديد، خفي اللمحات، عميق الدلالات.

 وعلى الرغم أنه بدا بسيطاً في مبناه، لكنه حمل معناه الكثير الكثير من سعة الفكر، ومرامي التأويلات المُعقدة في كل جملة أو عبارة.. في لوحاته المسرحية ” كوفيد 19 والنصف” لجأ الشاعر مزعل الى الرمزية المُبْهرة، لقناعته الأكيدة أن ” لا شعر من دون لغة رمزية ذكية ” كما يقال. وبالطبع هناك كثير من أهل الأدب والنقد يوافقونه في ذلك، بل وذهب بعضهم إلى القول: “إنه لا يجوز أصلاً أن يُعد الكلام شعراً أو جنساً أدبياً كيّساً وحقيقياً، إذا لم يكن مستفيدًا من إمكانات اللغة الواسعة، التي تزخر بمقدرة كبيرة على التلوّن وتغيير الدلالات من خلال فنونها المُختلفة “. ولعلّ شيوع استخدام الرمز المناسب، والموهبة في توظيفه توظيفاً ذكياً، المزّية الأبرز للشعر العربي الحديث.. ككل..

للأمانة، إن فعل الكتابة من قارئ غير مختص، عن منجز أدبي، مسرحي غرائبي، إبداعي وإشكالي، لشاعر قلق للغاية، كمزعل المزعل، هو في الحقيقة أمرٌ جلل، يحمل في طياته، شيئاً كثيراً من المغامرة والتهور.. بل ويتطلب – في تصوري – نوعاً فريداً من الجسارة جرأة التجريب، شبيهة بتلك الجرأة في التعبير، التي يقبض شاعرنا مزعل على تلابيبها بكل يسرٍ وسهولة.. أما عن رغبة الغوص في مناقشة تأويلات تعابيره، ومحاولة القبض على نواصي معانيه وصورها، أو رسم حدود المرامي البعيدة والمتوارية خلف مفرداته، والمراد إيصالها للقارئ، فهي – في حد زعمي – المخاطرة بعينها. المخاطرة في أن تفرط بـ وقارك المعرفي، و رصانتك الفكرية، وأنت توظف كامل انتباهك وإدراكك لصالح فهم شاعر إشكالي، مختلف تماماً في مقاله عن السائد.. كوفيد 19 والنصف” مقال مونودرامي شعري يرمي منذ العبارة الأولى، على المتلقي حقائقاً لا تهاود ولا تستكين.. ولا تطلب رضى أو إذناً أو مديحاً من أحد.. إنها حقائق مربكة، لا تعلم تماماً، إن هي تمكنتْ من روعك، ماذا ستفعل بك، أو إلى أي شطآن من المعرفة والكشف سترمي برشد عاقليتك..
حقائق تضعك في دهشة غريبة وحيرة مع ذاتك.. حيرةٌ تشبه لحظة استيقاظ روح منهكة، على واقع غربة قاسية، لا تدانيها إلفة مكان، ولا تقصيها سكينة زمان، ولا يهدئ من روع وحدتها أنسُ صُحاب أو خلاّن ..
حقائق فكرية مشاكسة، تدفعك على الفور لأن تتساءل، بعد أن تعي جرأة تعابيرها اللغوية، وتستوعب ملامح الصور البيانية المتلاطمة فيها.. عما ستفعله الآن بفهمك الجديد المُندهش والمضطرب هذا..
إشارات وكلمات توقظ فيك التوجّس المُرعب من الخسران المُبين الذي سيطالك، إنْ أنتَ تجاهلت إشاراتها المُتجهّمة، أو أمَاراتها المُتمردة، التي تومئ لك عن غضب عارم، في بحر كل مَتنْ شذرة، وطرف كل قول.. وتضعك في حضرة خبرٍ عاجل ماكر، مصنوع في بهو كل عبارة، تقول لك بعد كل كلمة وفاصلة وفيروس تصريح: أيها القارئ البعيد، الذي لم تأت بعد، إن الحق الذي أنفقت عمرك الافتراضي دونه – فقط – لكي تتعلم شيئا يسيراً عنه – ليس حقاً.. بل وهم كبير.. وان ذاك الفهم المُخاتل المُقدس في ذاك الخبر الرئيس الذي يسكن روعَك المرعوب، ليس حقيقياً أبداً.. بل هو أكذوبة الأجداد المتقنة.. أيها إنه تاريخٌ مختلف وميت جداً.. عما أود أن أقوله لك.. من قول صادق حيّ.. وحقيقة ما حدث، ليس ما يقوله لك، أيّ ظل مائل، في أيّ حرف مكتوب، أو ما يعنيه فيك، أي أثر لقلمٍ مُخلص وَفْي.. بكلمات أخرى: إن كل من يُتابع المنجزات الشعرية للشاعر مزعل المزعل – بما فيها تلك الوريقات الأخيرة، للمونودراما الشعرية المُعنونة – كوفيد 19والنصف – يُدرك بوضوح جلي، أنها عبارة عن بيانات احتجاجية متعاظمة، وشذرات لمشاعر مؤلمة، ذات عويل لا ينضب ولا ينتهي، تنسكب على هيئة إشارات سهلة القول مُمتنعة النول ، عصية عن أفهامنا النمطية في القراءة الأولى ، قد نكرهها للوهلة الأولى، أو نهرب منها ، أو نحارب حضورها الفظّ بيننا ، تماماً كأي شيء جديد في الحياة .. لكن بعد مرور فترة وجيزة من الزمن، وتأمل عميق في تطابق الحال مع المقال، وإضافة قليلاً من الصدق مع النفس، سيختلف الأمر مع الفهم تماماً، بخاصة، إذا ما أشحنا بمداركنا النزقة، عن سدود المعارف التقليدية السائدة في أذهاننا، والتي تعيق بصرنا، وتشوش صفاء بصائرنا الجمالية، وتحجب عن أفهامنا القيم الجديدة والثائرة، التي ترفل بها هذه القصائد المسرحية الغاضبة، وتلك الفيوض الغريبة من المشاعر غير المهادنة.. لأننا سرعان ما سنفهم، أنها مرموزات واسعة الطيف وعميقة الدلالة، وإشارات لا لبس إدّعاء فيها، ولا نفاق ولا تدليس … بل هي مشاعر لقصائد اجتجاجية ثائرة ومحذرة، تريدنا ألا نقع في شراك القوالب الفكرية الجامدة للأدب، وأن نحرر ذائقتنا المعطوبة من النمطية المُعتادة في قراءة الأدب والشعر ..

لذا تجده يربأ بأفهام الناس من أن تمتلأ بصواب منافق، أو أن تصاب بالتخمة من بيان مُضلل أعمى، تفترّ به شفاه ناقد أرعن، يابس اللسان والهوية، لا يملك من حرارة الخيال، سوى حقيبة لغوية كبيرة، تشبه طبول الحرب.. وأخشاب الموت.. قصارى القول: إن مونودراما ” كوفيد 19 والنصف” للشاعر “مزعل المزعل” ، هي لوحات شعرية صادمة ، وُجدت لطرق معرفية ضيقة جداً ، و صُمّمت – فقط – للسائرين فرادى في هذا العالم .. وهي مطارق معرفية مدمرة، واحتجاجات إخبارية شعرية تفيض بالضيق والنفور والغضب، بل وحتى الكراهية.. قد لا نستطيع أن نلم بأسبابها صخبها تماماً، وقد لا نعرف متى يمكن أن تتوقف فيوضها الجنونية عن العصف بمقابر أذهاننا.. لكن يبقى ” مزعل المزعل ” هو شاعر الضرورة، في حال وطن هارب من أبنائه، وظروف مجتمع يعتاش على ثقافة الدجل المُقدس، القائم على رغوة من الكلام الذي لا يشبه شيئاً في حال مثقفيه، رطانة أية لغة من لغات هذا العالم.. أنه شاعر الضرورة، الذي لا يريد لقارئه المقهور، أن يبقى غافلاً في حبورٍ أبله، أو سرورٍ مؤقت، أو لناقدهِ المستحاثة أن يبقى منتظراً، لأي موجز إخباري ممل أو غزلي تافه.. أخيراً وليس أخراً: مع مونودراما ” كوفيد 19 والنصف ” نحن مدعوون ليس للتعاطف، بل للحكم.. ومع شاعرية مزعل المُقلقة، والعاصفة بكل ما هو تقليدي في التعبير والتشكيل.. ستكون أفهامنا – حتما – في حرب ضروس من نوع فريد غير مسبوق، لا هوادة فيها ولا منتصر.. ربما عزاؤنا الأوحد فيها.. أن هناك ناجٍ واحد على الأقل، يمكنه أنْ يسرد عنا، قصة القهر التي لا تُقال .

للحديث بقية ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى