وسام العاني .. الشاعر مهندسًا كالبحرِ يَمشي حافياً

عبد الرزاق الربيعي | مسقط

إذا كان الشاعر “مهندس أرواح” كما يرى أحدهم، فأن المهندس عندما يكون شاعرا، سيجد قاسما مشتركا أعظم بين الهندسة، والشعر يتمثّل في البناء، رغم أن عملية البناء  في مجال الهندسة تقوم على المواد الإنشائية التي تشكل عناصرها كالطابوق، والإسمنت، والحديد، بينما يشيد الشاعر أبنيته من الكلمات، ويكون دوره بعد عملية البناء، كما يقول الشاعر المهندس سعيد الصقلاوي “تلوينها بصفاء الأفكار ، و ترصيعها بجواهر الصور الشعرية ، وتنغيمها بإيقاعات التفاعل الشعوري ، و تلحينها بمقامات الوجد النفسي و العشق الروحي ، و تأكيد حضورها التاريخي بالتمسك بمنجزها المتجذر رسوخا في أرضية الأصالة ، و الممتد حلماً بالأجمل ، إلى مشارف الزمن القادم”

وهناك من يرى أن جيّد الشعر، ما يكون محافظا على النسق، فتتجانس عناصره، وتتوافق ضمن نسيج منتظم،  فالبناء الفني، والوحدة العضويّة، وتماسك العناصر من أبرز سمات النص الشعري الحديث، وأحسن الشعر لدى ابن طباطبا في كتابه “عيار الشعر” “ما ينتظم القول فيه انتظاماً يتسق به أوله مع آخره على ما ينسقه قائله، فإن قُدِّم بيت على بيت دخله الخلل كما يدخل الرسائل والخُطَب إذا نُقض تأليفها، فإن الشعر إذا أُسس تأسيس فصول الرسائل القائمة بأنفسها، وكلمات الحكمة المستقلة بذاتها، والأمثال السائرة الموسومة باختصارها لم يحسن نظمه، بل يجب أن تكون القصيدة كلها كلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها”، فالشعر صناعة تحتاج إلى أدوات، لبناء معمار النص، والمعمار يحتاج إلى عقل يعي العملية إلى جانب الموهبة، وهنا لابد من هندسة النص، فيتداخل عمل المهندس بعمل الشاعر، ومثلما درج المهندس وسام العاني على التأني عند تشييد  المباني ضمانا لسلامة الساكنين، فإن هذا الحذر، والتأني انتقل معه إلى الكتابة، فالشاعر وسام العاني الذي عرفته يكتب الشعر منذ سنوات اعتاد التأني في الكتابة، والتخطيط المسبق قبل البدء ، كما يفعل في موقع عمله كمهندس، فالشعر مسؤولية ومهمة صعبة ، مثلما يرى الحطيئة حينما قال:

الشعر صعب وطويل سلّمه

إذا ارتقى به الذي لا يفهمه

زلّت به إلى الحضيض قدمه

وبعد انتهائه من عملية الكتابة التي تشبه “النحت في الصخر”، يعكف على مراجعة ما كتب، بصبر، والاشتغال على مفرداته بحساسية، وذائقة عالية، وبعد إتمام كل ذلك يتأنّى بقراءتها أمام الجمهور، ونشرها، وهو بهذا يتبع نصيحة ابن طباطبا حين قال “ينبغي للشاعر فيعصرنا أن لا يظهرشعره إلا بعدثقته بجودته وحسنهوسلامته من العيوب”

يتجلى من نصوص الشاعر وسام العاني  الجرح العراقي النازف، الذي يشكّل بؤرة مركزيّة، ويبدو شغله الشاغل، فجاءت حروفه مضمخة بالحنين، والإحساس بالغربة التي وجد نفسه ملقى على أرصفتها، وتبدو هذه الثيمة واضحة في قصيدته “جذور الطين” الفائزة بجائزة عبد الرزاق عبدالواحد التي يقيمها مركز ذرا للدراسات والأبحاث بباريس لتخليد ذكرى الشاعر الكبير الراحل، في دورتها سنة 2017 م، و كان هذا الفوز سببا للفت الأنظار له، وإخراجه من حالة التردّد، ووضعه على جادّة الطريق، ودخول الحياة الثقافية بثقة:

نَفْسٌ بشرنقةِ اغْترابٍ عالِقَهْ

تَرْنو إلى وطنٍ بقَبْضةِ مَشْنقَهْ

كالظلِ تهربُ من هَجيرِ غيابِها

لِتَلُوذَ في أَحضانهِ وتُعانقَهْ

حوريةٌ طالَ انْتظارُ أميرِها

فهَوَتْ على جُرفِ الخُرافةِ مُرهقَة

تركَتْ جذورَ الطينِ في قَسَماتِها

لِتَظلَّ في الأرضِ الغريبةِ مُورِقَهْ

هِيَ والعراقُ مُهاجِرانِ تَقاسَما

ذُلَّ المَنافِـــيَ والحدودِ المُغْلقَهْ

بالسرِّ يلْتَقِيانِ تحتَ قصيدةٍ

تَمشي لِحَضْرتِها القوافيَ مُطرقَهْ

شَرْخانِ في جسَدِ الخريطةِ فيهما

البوحُ أخرسُ والمَواجعُ ناطِقَهْ

يَتباعدانِ وللْمدامعِ نزفُها

ما ينزفُ المسمارُ تحت المِطرقَهْ

وبلغة تفيض مرارة، وألما ينعى الشاعر وسام حاضر الزمن العربي الذي يعاني من الأزمات الطاحنة، والفرقة، لكنه لا ينعى هذا الحال، فوسط هذه العتمة، يرى الضوء، فينثر بذور الأمل في غد مشرق، سيطلع حتما، ليعيد إلى الأمة كبرياءها الذي لم يكسره توالي المحن، والنكبات، مستلهما من العصور الزاهرة رموزها، وروحها الحيّة، ووهجها لم يخبُ يوما :

جزعتْ دروبُكَ منْ نزيفِ صغارِنا

ظلماً ولم تتعبْ نصالُ التفرقهْ

قُمْ رُدَّنا صوبَ الفراتِ سَنابلاً

خُضراً تُعانقُ في جبالِكَ زنبقهْ

قُمْ رُدَّ للعَرَبيّ سمتَ عقالِهِ

ولسيفِ عنترةَ القديمِ تألّقَهْ

لِتعودَ عَبْلةُ في القبيلةِ حُرّةً

بجَدائلٍ بين السحابِ مُحلِّقهْ

وتعودَ بغدادُ الجمالِ مَجرّةً

تزدانُ في يدِها الكواكبُ مُشرقهْ

سأظلُّ أرقبُ من سحابِكَ واثقاً

برقاً يُحضِّرُ للقيامةِ بيْرَقَهْ

ويستلهم الشاعر وسام العاني من سورة “يوسف” رموزا يقوم بتوظيفها توظيفا فنيا واعيا، فالدم الذي لطّخ به الأخوة قميص يوسف يملأ “سلال القمح” في السنين العجاف، والقحط، بدلا من القمح الذي يغيث الجياع، وأوّلهم الأرض، التي عندما تجوع، فأن طعامها جثث الموتى، وهنا يرسم لوحة تراجيدية لواقع يختلط به الجوع، بالمواجع، والضياع المطلق، ونجد خلال ذلك الكثير من الإسقاطات على الواقع:

دمٌ في سلالِ القمحِ والأرضُ جائعةْ

وليلٌ بعينِ الصبحِ مدَّ أصابعَهْ

وفي وطنٍ كالنهرِ يحملُ رجزَهُ

ويُلقي على ظهرِ السماءِ مواجعَهْ

تشيبُ الرؤى صبراً ويوسفُ لم يزلْ

غُلاماً مُضاعاً والقوافلُ ضائعة

ورغم أنه يبدو شغوفا بالشكل المتعارف عليه في الشعر العربي المتوارث، لم يغلق نوافذه أمام التجارب الشعرية الحديثة، فكتب قصيدة التفعليلة، وقصيدة النثر، إلى جانب استفادته من الانقلابات التي أحدثتها في اللغة، والرؤى في النص العمودي الذي درج على كتابته بمهارة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى