تجليات الوقت بين البوح والصمت في رواية: قارورة عطر؛ : لـ” بشرى أبو شرار “
وليدة محمد عنتابي | سوريا
من غيهب عزلة هيمنت على الروح ؛ وقيدت حركات الجسد في حيز مساحة محكومة بانغلاق الأفق، تطالعنا الذات الوجدانية بشجونها وشؤونها ، وقد شكلت ندوبا على مستويات الشعور وفي أعماق المدرك والمستدرك. تلك الغربة التي باتت تحفر أخاديدها في أعماق الساردة ، كانت مع الوقت في تحالف ضد التحالف ، فتلك الندوب لم يشفها الوقت ، بل زاد من انغراسها وتجذرها ، حتى باتت بعضا من كينونة لا تستطيع تجاوز حاضر ممض إلى ماض لا يعود.
تستحضر الساردة شخصيات روايتها بشفافية الحنين للتواصل مع الآخر ذلك الذي يتراءى لها على شاشة حدسها وقد اعتمر بالدفء والأمن . تتأرجح مشاعرها بين الكلمات والشخصيات مولدة لحالة من التماهي في تدوير خلاق مجدد ، بتجاوز حاضرمفض إلى تصحر مهدد بخراب الحواس . يرخم الماضي بكل زحمه وحضوره في ذاكرتها المرصودة لاعتزال يغرق في الفراغ ويستقطب الوحشة أحيانا ويطفو بلآلئه على السطح مطففا منسوب الفرح أحيانا ..
(وحيدة أنا والفراغ واللاشيء ، تأتي أنت من خلف جدار الوقت ، تشاركني عزلة أنا فيها من عقود بعيدة …) (.ملاذها ما تسطره من كلمات تعوذ بها من خناس زمن أخرق لا يثبت على حال هي الكلمات يا صاحبي، منها نستمد صمودنا ومنها نستمد سلامنا لغفوة نسرقها من شرفات الوقت ) . ماذا تبقى من الماضي ؟ سوى الذكريات تلك المسكونة بهاجس الحياة واللوعة على كل ما فات .
تتراوح الرواية بتشكيلها الحواري بين ساردين معتقين، عابرة أسلوب السرد التقليدي إلى فضاء البث المندى بدمع المدى بين روحين عالقين في مواربة الغياب وشبهة الأسئلة .
هي: باتكائها على ذاتها الغارفة في اجترار سوداوي لأحداث ومواقف تفلت منها على الدوام ، تاركة في كل مرة لكماتها الموجعة على روحها المتعضية في مخيالها الطازج والمنبعث للتو من ينبوع الخلق والإبداع ، رغم انكماس المكان وتسرب الزمن . إنها في رفضها وحالات تمردها مهددة بتصحر الحواس ، تنفتح من خلال نافذة الأمل على أفق يسلخ بعده باستمرار، ملوحا لها ببداية جديدة .
( لن أكون كما مدينة بحر ضيعت مسارات شمسها .. أنا حين أطل عليك من نافذتك ، انتزع نفسي من دوامات الغياب ، لا فكاك من روح مقاومة ستظل تسكنني، أقتطف لحظات من سويعات الوقت ، قد أحبه لأنه لي ، لا أحد يشاركني في مواطن ذات تسكنني من يوم خرجت إلى هذه الحياة أنا ابنة الأمس أقتات على ماض هو من حبات ألماس لا يخلو بريقها ، وأسعد أنني كنتها).
وهو: على قارب قدوم شمسي ، يطلق بشائره الملونة بأطياف قزحية، يطلق كلماته إليها من شاشة حاسوب لم يعد يحتمل حرارتها فآل إلى الانطفاء مبعثرا تلك الكلمات التي لا يمكن أن تتكرر في أثير لقاء افتراضي النكهة تخيليلي السمات. إنهما معا في لقائهما الأزلي قبل أن يدركا حتمية ذلك اللقاء ، يشكلان دارة الفصول وثنائية الموجود الكوني في لوبانه وبحثه الدائم للالتقاء والتماهي في وحدة حال .
بين بسيشية وكوبيد يعقد الحب معاهدة الخلود ، يطل السؤال الوجودي برأسه من حين إلى حين آخر محملا بأثقال الهواجس وقلق الأجوبة (سيدتي.. سيدة كل الأوقات والانتظارات والارتجالات .. هل نحن الغرباء ؟ أم الحياة أم الوقت ؟! (.بين المسافة والوقت لغة من الترقب وتناذر التقدير .. في المسافات البعيدة تكمن أسرار الاقتراب ( تتمظهر الساردة في جدلية انتسابها وإثبات هويتها على خشبة الهنا والآن، انها ليست تلك المنشقةعن أرض سحبت من تحت قدميها .. لا بل هي كما تعبر عن ذاتها الأزلية ( أنا امرأة كنعان من زمن آرام من زمن لم يكتب بعد ، كتبت ” شهب من وادي رم” وتدثرت بأسماء نبطية ، وكان اسمي شقيلة ، وحرف الشين يلاحقني، بسيشية من أسطورة يونانية ، هي انا ، وشقيلة من مملكة الأنباط في زمن كنعان القديمة، هي أنا جميعهن .. أمي تشاركني حرفا من اسمي : شريفة .
هو زمن كنعاني وأنا بكل قوتي أتجذر فيه ، وقد أعيده من جديد ..) .إنها تلك القوة الكامنة تحت مظاهر الانكفاء والشجن والعزلة ، تنهض كل صباح من جديد تزرق في مفاصلها نسغ الحياة ، مشرقة كما الشمس في قبة السماء .ليست المسافات المكانية والزمانبة هي التي تفصل بيننا وبين الآخر، بل تلك الوهدات الوجدانية والروحية وما بينهما .
تداعيات وحوادث تحمل في تلافيفها روح الوقت الذي ينتجها ومن ثم رصدها رهن الذاكرة ، لتكون الشاهد على أزلية تحولات الوقت ومخاتلاته في إشغالنا ومحاولات القبض عليه دون جدوى .
)هل يغادرنا الوقت متسربا منا؟ (هل سيبقى الصبح صبحنا والمساء مساءنا)؟
من طاقة الوقت تلك القوة الباعثة للتشابك المحركة للأحداث، تتجدد الحياة .
(نيسان تشرين .. فلسطين .. قد يغيب الوقت عن وقته، وقد تذوي ملامحي)
(هل لملامح لي أن تصمد في وجه رياح عاتية؟ هل لملامح لي أن تصمد أمام مراتع الفقد وينابيع الألم ؟ )لا وقت في الوقت ، وليل صارت فيه كل مواقيتي )
(وحيدة أنا في كل مواقيتي، صرت أنا وهي صنوين ، نستعيد آخر ما تبقى من الوقت) إنها في رعبها الغوغائي من العدم يسكنها حس الغياب ، ترتعد هلعا من نفاذ الوقت ، تلجأ إلى تدوين مشاعرها وأحداث حياتها في كلمات رواياتها كأمل أخير في التشبث بالحياة، من خلال القبض على ناصية الزمن ذلك الرفيق اللدود المصاحب لها في كل خطوة على طريق الحضور والغياب..
مسرودة ارتبطت بما سبقها من سرديات الأديبة الأخيرة : مدن بطعم البارود ؛ تاج الياسمين؛ قارورة عطر . انتظمتها لغة تصويرية بيانية ترقى إلى لغة الشعر .