محنة الرَّائي (قصة قصيرة)
ميثم الخزرجي | قاص وكاتب عراقي
لا حاجهَ لي لأن أعرف الدافعَ الذي من خلالهِ تعرفتُ على ذلك الرجلِ الخمسيني الذي يحترفُ الكتابةَ المسرحيةَ على الرُغمِ من كَثرةِ الإشاراتِ التي تمارسُ دورها خلسةً باتجاههِ، بطبيعتي الميّالةِ إلى المعرفةِ كنتُ على خطوةٍ واحدةٍ من جميعِ الأعضاءِ الذين ينتمون للمشهدِ الجماليِّ من أدباءٍ و فنانينَ، وبوصفي كاتباً فتياً لم أصلْ الى مرحلةِ البلوغِ الذي يؤهلني لأن أكون صوتاً له صداهُ الملفتُ، أحاولُ أن أُبشّرَ بوداعةٍ لا مثيلَ لها علّها تعطي دفقاً معنوياً لإزالةِ الغَمامةِ السوداءِ الملتصقةِ في وجوهِ البعضِ من أصحابِ الكروشِ البارزةِ الذين يعتقدون الثقافةَ ليس أكثرُ من بذلاتٍ وأربطةِ عُنِقٍ بهيةِ الطلةِ، انظرُ إليه بقلقٍ وحذرٍ محفوفين بالفضولِ الذي لازمني حالما أحاطوني بعنايةِ النصحِ ألشديدِ بعدمِ مجاراتهِ لكني وما سَمعتُهُ من البعضِ لم يكن موطناً للريبةِ أو الشكِ بالنسبةِ لي على أقلِ تقدير، فمنهم من اتهمهُ بالجنونِ المحفوفِ بالهذيانِ المستمرِ والآخرُ أغلق موضوعَهُ بابتسامةٍ خجلةٍ يشوبها التأملُ الغائرُ, فيما إذا رافقتهُ تهمةُ التهجمِ على بعضِ الادباءِ الذين أضاءتهمُ السرقةُ أشعل في داخلِهِ مرارةَ الحسرةِ وراح يكرسُ صوتَهُ بأسماءٍ يطلقها كالرعدِ، حامد الكاتبُ المسرحيُ والممثلُ المشاكسُ الذي انقطع لفترةٍ ليست بالقليلةِ بسبب ما أُشيعَ عن إصابتهِ بمرضِ الكانسر لكنهُ عاودَ الظهورَ قبيل دخولي لمنتدى المسرح بسنتينِ ونيف. واقعاً كنتُ أحرصُ على أن أفتحَ حديثَهُ بصورةٍ بلهاءَ لأتمَعّنَ في ردودِ الأفعالِ منتقياً أصدَقَها طرحاً لأستشيرَ حدسي متناغماً مع كمٍ لا بأس بهِ من المواويلِ التي تنشُدُها أصواتُ البعضِ وتحديداً بعد إصدارِ مسرحيتِهِ الأولى (عزرائيل يكلم ضحاياه) الذي أهداها لروحِ زوجتِهِ التي توفيت بحادثِ سيرٍ، أغتنمُ الفرصةَ ألمؤاتيةَ للحديثِ معهُ لكني كنتُ أمهِلُ غايتي إمعاناً لارتسامات وجهِهِ المعتدةِ وكأنهُ معبئٌ بمآسٍ لا مفكَ منها أبداً. ألمحُ جلوسَهُ لمراتٍ عديدةٍ في نهايةِ القاعةِ ساهماً النظرَ بصورةٍ واثقةٍ متفحصاً طبيعةُ العرضِ المسرحيِّ لكنْ سرعانَ ما يتماهى عن الانظارِ ليكشِفَ عن هاجسِهِ بالخروجِ وتُسدلُ الستارةُ معلنةً انتهاءَ العرضِ، تبعتهُ ذات مرةٍ لأشاهدَهُ منطلقاً نحو الفناءِ الخلفيِّ للمنتدى ماسحاً بأنظارهِ المتوهجةِ قلقَ المكانِ ليحتويهِ بكلماتٍ راحتْ تسكنُ الفراغَ لتعطيهِ صفةَ الطمأنينةِ (مهووسون ونحن نعيشُ في فكرةٍ واحدةٍ، كلنا خلاصةُ فكرةٍ واحدةٍ) وأُخرياتٍ أكلتها الصدمةُ من جراءِ ما رأيت، أُنظرُ إليه بعينينِ كاشفتينِ ليذرعَ المسافةَ بخطواتٍ ممسرحةٍ مبهرةٍ محرِّكاً ذراعيهِ بصورةٍ مموسقةٍ كمن أدرك هواءهُ الوحيدَ وراح يحتضنُهُ برئتينِ صالحتينِ للتجلي، فيتمادى مبتهلاً بجملهِ ويصيحُ (أن تحرث المعنى لا تجد سوى فكرةٍ بليدةٍ منغمسين بها)، متوقفاً حيناً ومعاوداً إثارتَهُ بعد حين، ليهنأ بما نفثَهُ وراح يُدخنُ سيجارتَهُ ويمضي ليترُكَ خلفَهُ حفنةً من الدخانِ وسيلاً من الاسئلةِ المعلقةِ. غادرتُ ما لدي من مهامٍ ورحتُ أنصتُ للأثرِ الغريبِ الذي تركَهُ هذا الرجلُ، توقفتُ هنا، أسير على مهلٍ إلى هناك، التزم السكونَ لأرمّمَ ما تهدم من مخيلتي لأنجو بخروجي من المكانِ، جاهدت على أن اجدَ مخرجاً لكلماتهِ وجملهِ التي تصرخ لكني عجزت، ما الذي كان يقصدُهُ بهذه المفرداتِ الراكزةِ المبعثرةِ، بعد يومينِ وأثناء جلوسي في مقهى المسرحيين عزمتُ على أن أُبادِرَهُ بحديثٍ عفوي، كان سلامي له أشبَهَ بالمحنةِ، جلسنا معاً, أمسكتُ بالوقتِ جيداً لئلا يباغتنا بالرحيل، دنوتُ منه بهدوءٍ لا ينقصُهُ الحذر :
أنا شاهدتُكَ وأنت تدورُ بفكرتِكَ الواحدةِ
كلُّنا فكرةٌ واحدةٌ
ما معناك؟
وأنت ما معناك؟ وما معنى الجميع؟ كلُّنا حصيلةُ نهاياتٍ معروفةٍ، كلُّنا نحترفُ التمثيلَ، ما أوقحنا ونحن نتقمصُ أدوارَ الخديعةِ، ما أسفهنا ونحن على علمٍ بالفصلِ الأخيرِ من مسرحيةٍ عظيمةٍ أُسمها الحياة.
تمعنتُ بكلامِهِ جيداً محاولاً أن أُحظى بأجوبةٍ لكمِّ التساؤلاتِ التي طرحها
ليربت على كتفي بابتسامةٍ باردةٍ: لا تقلق فموعدُ ختام العرض قد اختصهُ التيه.
استقام من كرسيِّهِ ليستأذنني بقناعةٍ تامةٍ على أملِ اللقاءَ بعد اكمالِ مسرحيتِهِ المؤجلةِ (الغدُ الذي لا علمَ لنا بهِ).