بدون مؤاخذة.. كي لا تغرق السفينة
جميل السلحوت | فلسطين – القدس
معروف أنّ الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة منذ قيام اسرائيل في مايو 1948 وحتّى يومنا هذا تجيد بامتياز إدارة الصّراع، وتحقيق الأطماع الصّهيونيّة من خلال تضليل الرّأي العام العالميّ دولا وشعوبا، ومن خلال ارتباطها بعلاقات متينة مع دول عظمى مثل بريطانيا، فرنسا وأمريكا، حتّى أنّها استطاعت خداع الإتّحاد السّوفياتي من خلال “الكيبوتس الصّهيونيّ”، فكان من أوائل من اعترفوا بإسرائيل. وليس بعيدا ذلك اليوم الذي سنرى فيها تحالفات اسرائيل مع الصّين كونها الدّولة الأقوى المرشّحة لقيادة العالم اقتصاديّا على الأقلّ. وكان نشاط اسرائيل الدّبلوماسي متوازيا مع تجنيد قيادات عربيّة من خلال حلفائها من الدّول العظمى؛ لتكريس الجهل في المنطقة التي كانت عربيّة، وصرف الشّعوب عن قضاياها المصيريّة، ولتصبح هذه القيادات “كنوزا استراتيجيّة لإسرائيل” في المنطقة.
ومعروف أنّ المشروع الصّهيونيّ طويل المدى يقوم على مخطّطات ودراسات استراتيجيّة تبدأ بخطوة خطوة حتّى تحين الفرصة للإعلان عنها دفعة واحدة.
ويلاحظ أنّ اسرائيل ومن خلال خطّة نتنياهو التي أملاها على الرّئيس الأمريكي ترامب قد استطاعت صرف الرّأي العام الإقليمي والعالمي عن الإحتلال الذي هو أساس الصّراع، للتّركيز على قضّيّة ضمّ ما نسبته 30% من مساحة الضّفّة الغربيّة، مع أنّ الضّم أو عدمه كما قال غانيتس نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي “لن يغيّر من الوضع القائم شيئا”.
وإذا ما عدنا قليلا إلى بدايات الإستيطان في المناطق المحتلة في حرب حزيران 1967، فإنّ اسرائيل قامت بهدم ساحة الحائط الغربي للمسجد الأقصى”البراق”، وحارتي المغاربة والشّرف المحاذيتين له قبل أن يهدأ أزيز رصاص تلك الحرب الشّكليّة، وباشرت ببناء حيّ استيطانيّ يهوديّ مكانه بعد تهجير مواطنيه الفلسطينيّين، وأعلنت ضمّ القدس القديمة وبعض القرى المحيطة بها قبل مرور أسبوعين على بداية تلك الحرب العدوانيّة.
وتوالى الإستيطان في المناطق التي كانت قواعد عسكريّة للجيش الأردنيّ قبل الاحتلال، مبرّرة ذلك “بإسكان أُسَر الضّبّاط والجنود الذين يخدمون في “الأراضي المدارة!”، وتواصل الإستيطان تحت شعار بناء مراكز أمنيّة؛ لتصبح المستوطنات مدنا حديثة تحتلّ رؤوس الجبال وتحيط بالمدن والبلدات العربيّة، التي باتت لمن يرى خريطة جويّة للمنطقة مجرّد “خرائب” مطوّقة من مختلف الجهات، ومعزولة عن بعضها البعض. وجاءت خطيئة أوسلو في العام 1993 لتفريغ منظّمة التّحرير وفصائلها من مضمونها، وتحويلها إلى سلطة على السّكان دون الأرض،وليتضاعف عدد المستوطنات والمستوطنين لفرض حقائق على الأرض تجعل إقامة دولة فلسطينيّة خيالا أكثر منها واقعا. وفي العام 2007 اكتمل جدار التّوسّع الإسرائيلي ليقضم 7% من مساحة الضّفّة الغربيّة.
واكتملت دائرة الخراب الفلسطيني بقصد أو دون قصد بانقلاب حماس عام 2007 وفصل قطاع غزّة عن الضّفّة الغربيّة في صراع على سلطة لا تملك من السّلطة إلا الإسم.
وإذا كان المسيحيّة المتصهينة قد كشّرت عن أنيابها في عهد الرّئيس الأمريكيّ ترامب، باعترافها بالقدس عاصمة اسرائيل في 6 ديسمبر 2017، وتبعها الإعتراف بالسّيادة الإسرائيليّة على مرتفعات الجولان السّوريّة المحتلّة، فقد سبق ذلك في العام 1995 قرار الكونغرس الأمريكي بنقل السّفارة الأمريكيّة من تل أبيب إلى القدس. لكنّ الرّئيس ترامب المعروف بجهله السّياسيّ وتعامله مع القضايا السّياسيّة كصفقات تجاريّة، كان أكثر جرأة ووقاحة من سابقيه في الدّوس على القانون الدّوليّ وعلى قرارات الشّرعيّة الدّوليّة، بانحيازه السّافر لإسرائيل منذ تولّيه الرّئاسة وعادئه للعرب وللمسلمين، ففي حفل تنصيبه خرج عن المتعارف عليه في تنصيب الرّؤساء الأمريكيّين القاضي بحضور الحفل ممثلا عن كلّ واحدة من الدّيانات السّماويّة الثّلاثة، فاستثني ممثّل الدّيانة الإسلاميّة. وجاءت مندوبته في الأمم المتّحدة “هيلي نايكي” مهدّدة من يخالف اسرائيل بحذائها! وتخطى سفيره في اسرائيل ديفيد فريدمان كلّ الأعراف الدّوليّة عندما سكن غي مستوطنة في الأراضي المحتلة.
وقد ترافقت سياسة ترامب التي يمليها عليه نتنياهو بخضوع المتصهينين العرب، الذين تهافتوا على التّطبيع مع اسرائيل وإقامة تحالفات أمنية وعسكريّة معها، بعد أن دفعوا ترليونات الدّولارات لترامب، كما دفعوا ويدفعون تكاليف ونفقات القواعد العسكريّة الأمريكيّة في المنطقة التي ما عادت عربيّة، وهذه سابقة تاريخيّة أن تدفع دول تكاليف احتلالها. وبعد أن شاركوا تمويلا وتدريبا وتسليحا في احتلال وتدمير دول عربيّة وقتل وتشريد شعوبها، تمهيدا لما يجري الآن من خلال تطبيق المشروع الأمريكي “الشّرق الأوسط الجديد” ٌعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفيّة متناحرة، وتصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيوني التّوسّعيّ.
ويلاحظ أنّ موقف عقلاء أمريكا وإسرائيل والرّأي العامّ العالميّ أكثر مصداقية وعقلانيّة من موقف بعض الحكّام العرب، الذين يكرسّون إعلامهم للتّرويج للمشروع الإسرائيليّ الأمريكيّ، على اعتبار أنّه “خطة سلام”! ويقومون في الوقت نفسه بشيطنة ومعاداة كلّ من يعارض هذا المشروع الذي سيدخل المنطقة في صراعات دامية لقرن قادم.
ونتنياهو الذي يدير الصّراع بكفاءة ليس على عجلة من أمره في تطبيق الضّم، فلا يوجد ما يقلقه؛ لأنّه على قناعة تامّة بتساوق غالبيّة الأنظمة العربيّة معه. وسيطبّق مشروعه على مراحل؛ ليصبح أمرا واقعا تماما مثلما جرى الإستيطان على مراحل.
فهل تتدارك القيادات الفلسطينيّة مخاطر المرحلة بإعادة اللحمة بين أبناء الشعب وبين الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة؟