تاريخ

كيف محت الملكية سيادة الشعب المصرى؟!

بقلم  الكاتبة شيرين أبوخيشة |  القاهرة
قابل شعب وادي النيل حركة الجيش بالتأييد بل الحماسة لأنه رجا أن تُسفِر عن ردِّ سيادته إليه بعد أن حرمه النظام الملكي الفاسد من تلك السيادة وبعد أن أصبحت عبارة الأمة مصدر السلطا ألفاظًا خاوية لا تحمل أي حقيقة فكان الملك هو الذي يعين الوزارات وهو الذي يقيلها ويحل البرلمانات ويتحكم في الأداة الحكومية كلها يمنح من يشاء ويحرم من يشاء ويحابي ويعادي بحسب هواه حتى أصبح العالم أجمع يتحدث عن وجود حزب في مصر يسمى «حزب السراي» وكان الإنجليز بنوع خاص يرون أن مصر لا يقوم فيها غير حزبين لا ثالث لهما وهما «الوفد» و«حزب السراي»وذلك قبل أن يضطر الوفد في حكمه الأخير إلى مهادنة الملك ومن المعروف أن مصر كان بها قوًى ثلاث تنازع الشعب وبالتالي الأحزاب وهي طغيان الملك وسطوة الاستعمار ومناورات الإقطاع فشعب وادي النيل كان على استعداد للتكتل لاسترداد سيادته كاملة والتخلص من كل أثر للاستعمار البغيض دون دفع أي ثمن لهذه السيادة أو دخول في أحلاف لا مصلحة له فيها بل اصابهم منها الويل والدمار فإن الدعوة البراقة إلى القومية كانت محارَبه وإنه لمن الإجرام أن يحاول أي مصري جمع الكلمة للتسليم للإنجليز وحلفائهم بما يريدون تفاديا مخاطرهم المدمرة وإبقائهم عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم محتاجين لحمايتهم الأبدية
كان مفترضا طرد الملك من مصر إلى أن تعود السيادة إلى الأمة بعد زوال مغتصبهاوأن يصبح رضا الأمة وثقتها الوسيلة الوحيدة بتولي محمد نجيب الحكم في البلاد وتوجيه مصيرهاولكن الحلم الجميل لم يتحقق فلم يمكث في الحكم سوى سته أشهر قبل أن يطيح به الجيش وذلك لعزمه على تطبيق الديمقراطية وعدم تدخل الجيش فى أمور الدوله وجعل مصر دوله مدنيه فقامت الثوره وأصبح نجيب تحت الاقامه الجبريه ليس له من مؤنس سوى كلبه
الحركة وقفت عند الأشخاص فهي قد عزلت شخص الملك ولكنها لم تعزل النظام الفاسد حينها ركز الجيش جهده في تطهير أجهزة الدولة من بعض الأشخاص ولكنه لم يطهر تلك الأجهزة من القيود والثغرات المخيفة القائمة في الدستور وفي القوانين والنظم المتراكمة من العهد المنقرض والتي ربما كان الأفراد موضع النقمة هم أيضًا من ضحاياها.
ولم تتحقق آمال الشعب من تلك الثورة
الثورة تصلح النظم لا الأفراد فحسب ونحن في بلاد أصابها الاستعمار والاستبداد خلال سنين طويلة بأمراض عميقة لم تستقم معها أخلاق ولا تقاليد يمكن الاعتماد عليها في تلافي العيوب والثغرات الموجودة في النظم كما ينظمها الدستور والقوانين المسألة الوطنية التي تطلبت حركة اجتماعية للتخلص من الاحتلال والشعب كفيل بأن ينبذ الخونة والمترددين وما نظنهم إلا نفرًا قليلًا لا أهمية له وفي بلاد كإنجلترا وأمريكا نرى خطوط السياسة الخارجية العامة متفقًا عليها من الحزب الحاكم والأحزاب المعارضة وذلك من أن إنجلترا بلاد لا تجاهد في سبيل استقلالها وسيادتها كما هو الحال عندنا بل تجاهد لاستمرار المحافظة على نفوذها وسيطرتها الدولية ولذلك كان لا بد من الاعتماد أولًا وقبل كل شيء على الدستور والقوانين وإحكام صياغتها حتى يتكون في ظلها المواطن صالحاً
لقد بليت مصر في عهد الفساد الغابر بمن كانوا يسمون بالمستقلين وتلك كانت طائفة الانتهازيين الجبناء الذين تعوزهم شجاعة تحمُّل الرأي والتضحية في سبيله عند الضرورة
فهم قوم لم يكونوا يحرصون إلا على راحتهم ومصالحهم المادية وكانوا يحاولون أن يكونوا على صلة طيبة بكافة الأحزاب ثم بصلة أكثر طيبة بالسراي أي بالملك وحاشيته ليتخذوا من ذلك وسيلة للوصول إلى المال أو الراتب والنياشين أو الوجاهة الاجتماعية وإنه لمن المحزن أن ظهور هم في ميدان الحياة العامة وأن يزعموا أنهم خير من رجال الأحزاب، محملين هؤلاء الرجال مسئولية الفساد الذي انتشر في البلاد مع أن أولئك المستقلين قد كان معظمهم الأداة الطيعة بين يدي الملك لتحقيق مطامعه وطغيانه ولم نسمع أحدًا منهم يومًا يستنكر شيئًا من ذلك الفساد
خداع المصريين وصل إلى الإبهام بأنه من الخير محاربة الحزبية في البلاد أي محاربة شجاعة الرأي والمناضلة دون التفكير بالأمر حينها تصدرت التشريعات لمحاربة كلِّ من ينتمي إلى حزب من الأحزاب فالقانون الخاص بوكلاء الوزارة الدائمين وضع قيودًا تحرم رجال الأحزاب من تولي مثل هذه المناصب الهامة أننا نرى دولًا عريقة في الديمقراطية كأمريكا مثلًا لا تختار وزراءها ووكلاء وزاراتها من رجال الأحزاب فحسب، بل وتختار أيضًا رئيس الدولة ذاته مع ما يتمتع به هذا الرئيس من سلطات واسعة
هناك اتجاهات أخرى ترمي إلى تحريم مناصب القضاء مثلًا على ذوي الآراء السياسية أو الحزبية وكذلك الأمر في تضييق المجال تضييقًا مسرفًا على رجال البرلمان وقتها أي رجال الأحزاب في العمل بالشركات.
استمرارية في هذا الاتجاه أدى إلى تنحية جميع الرجال الأكفاء عن الاشتغال بالسياسة ما دام الاشتغال بها سينتهي إلى مصادرة أرزاقهم وحرمانهم من شغل المناصب العامة الهامة والمساهمة في تسيير أداة الحكم في البلاد.
والموظف حينها لا يجب أن يؤاخذ إلا بشيء واحد وهو عدم احترامه للقوانين أو صدوره عن الهوى في تصرفاته ومع ذلك فقد لوحظ على نحو واضح أن الاستثناءات المغرضة لم تكن تمنح لوحدة الرأي السياسي أو الحزبي بقدر ما كانت تمنح لعلاقات قرابة أو مصاهرة أو مصالح مادية مشتركة بين أولئك المحظوظين وبين رجال الحكم بصرف النظر عن خبرته التي كثيرًا ما كانت تتخطاها تلك الاستثناءات من حكومة حزب إلى أتباع حزب آخر معارض بينما كانت تلاحظ اضطهادات داخل الحزب الواحد وكانت تصيب تلك الاضطهادات في الغالب ذوي الكفايات الممتازة وهكذا يتضح أن هذا النوع من الفساد لم يكن مرجعه إلى الحزبية بقدر ما كان مرجعه ضعف الأخلاق العامة والخاصة.
ولذلك لا ينبغي أن تُحمَّل الحزبية القائمة على وحدة الرأي والمبدأ أوزارًا
إن محاربة الحزبية على هذا النحو انتهى إلى إقصاء جميع الأكفاء عن الاهتمام بمصير وطنهم وبذلك أصبحت السياسة متصدرة على التافهين أو العاجزين أو المرتزقة وفي هذا أكبر إفساد للحياة العامة وكل ما يمكن أن يؤخذ به المواطن هو ألا يجعل للهوى التسوية بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات تنفيذًا لقوانين الدولة الملزمة له ولعامة المواطنين وبالرغم من الفساد العام الذي كان سائدًا في العهد فقد شهدنا بعض رجال الأحزاب يتولون أخطر المناصب المتطلبة للعدالة المطلقة والمساواة التامة بين المواطنين ويخلعون رداء الحزبية على أبواب تلك المناصب ويصبحون مثالًا طيبًا لنزاهة الحكم وبراءة القصد والأمانة في أداء المهمة الخطيرة التي نيطت بهم.
وجميع المصريين لا يزالون يذكرون بالخير ل عبد العزيز باشا فهمي الذي ترك رئاسة حزب الأحرار الدستوريين لكي يتولى رئاسة محكمة ا لنقض فساوى في عدالته بين الجميع فأصدر أحكامًا خالدة وأقر مبادئ سليمة لا تزال مناره للقضاء
فكيف حرمت البلاد من أمثال هؤلاء الرجال لا لشيء إلا أنهم قد اشتركوا يومًا في توجيه سياسة وطنهم أو كافحوا في سبيل الآراء التي يؤمنون بها في تلك السياسة والعبره بطبيعة الرجال ومتانة أخلاقهم واتساع عقلهم وأمثال هؤلاء الرجال عرفوا واجبهم وقدروا أنهم في مثل هذه المناصب لا يعملون لحزب ولا لفكرة خاصة إنما يعملون للوطن كله ولخدمة جميع المواطنين ولذلك يتخلون عن حزبيتهم بمجرد شغلهم لتلك المناصب. وما دامت هناك قوانين تحمي الوطن والمواطنين من ضعفاء النفوس الذين قد يجنحون إلى استغلال نفوذهم الشعبي أو السياسي في المصالح الخاصة
الاشتغال بالسياسة في ذاته جريمة أو موضع مؤاخذة ينتج عنها محاربة أولئك المواطنين في أرزاقهم ومواضع طموحهم المشروع وتطلعهم إلى خدمة البلاد في شتى نواحي النشاط الحكومي والحر.
والدعوة إلى نظام الحزب الواحد أو محاربة تعدد الأحزاب لا تقل خطورة عن الدعوة إلى محاربة الحزبية والتحزب في ذاته وذلك لأن النظام الديمقراطي لا يقوم بطبيعته إلا على تعدد الأحزاب حتى يكون بعضها رقيبًا على بعض
وفي بلاد كإنجلترا لا يُسلِّمون بضرورة وجوب المعارضة فحسب بل ويجعلونها نظامًا رسميًّا في الدولة وكما يقولون «حكومة جلالة الملك» يقولون «معارضة جلالة الملك» وزعيم المعارضة عندهم يتقاضى مرتبًا كمرتب رئيس الوزراء وله سكرتيرون ومعاونون وهيئات مكاتب تعمل تحت إشرافه وتعاونه على أداء مهمته الرسمية وهي المعارضة وتشديد الرقابة على الحكومة تسديدًا لخطاها ومعاونة لها على النهوض بأعباء الحكم وتحقيق الخير للوطن والمواطنين.
فإن الذنب في ذلك ليس ذنب الأحزاب ولا ذنب الديمقراطية ولا ذنب المواطنين وإنما هو ذنب النظم والقوانين الفاسدة التي ضيقت المجال أمام المواطنين ولكن كيف السبيل إلى إنشاء مثل هذه الأحزاب وممارسة الديمقراطية الحقيقه وتطاحنها في المذاهب والآراء بحثًا وتوفيقًا بين الاتجاهات والمصالح والوسائل الكيدية تُلصق بالمعارضين للحكومات في المسائل المسموح بها قانونًا فنرى من يعارضون النظام يُتَّهمون بأبشع التهم من أجل التنكيل بهم البطش بالمعارضين لمشروع كل الانظمه المستبده الظالمة لاصقة بالكثيرين من أحرار هذا الوطن وقادة الفكر فيه لأُلقِي به في غياهب السجون مُتهمًا وبالدعوة لقلب نظام الحكم.
هذا هو السبب الحقيقي في عدم تفاوت برامج الأحزاب تفاوتًا كبيرًا ومع ذلك فإننا على ثقة من أنه في اليوم الذي تطلق فيه الحريات إطلاقًا صحيحًا وتستقيم الأوضاع الحرة النزيهة ستنشأ في بلادنا أحزاب متفاوتة البرامج على نحو ما نشاهد في بلاد الديمقراطيات الحرة.
أن جميع الديانات في العالم تتحد في الأصول العامة أو على الأقل في أصل الأصول وهو عبادة الله ومع ذلك فكلنا يعلم مدى تفاوت هذه الديانات بل وتطاحنها وأحيانًا تعصبها.
إن تعدد الأحزاب ضرورة ملازمة لطبيعة الديمقراطية والدعوة إلى محاربة هذا التعدد دعوة رجعية تحارب الحرية وتمهِّد السبيل لأنواع من الحكم الاستبدادي الذي يجب أن تجنِّب بلادنا ويلاته حتى نظل أحرارًا وحتى يزدهر وطنا و شعبنا في ظلال تلك الحرية المقدسة.
أن إطلاق حرية التفكير السياسي سيؤدي إلى قيام ديمقراطية سليمة على أساس من المبادئ والمذاهب والأفكار وبذلك ينتفي العيب الملاحظ على أحزابنا الحالية من قيامها على العنصر الشخصي فهذا العيب لأن مجال التفكير السياسي يصبح محددًا محصورًا داخل هذا النطاق الضيق إلا على أساس التكتل الشخصي بدلًا من التكتل الفكري أو المذهبي مما أفسد الكثير من حياتنا الديمقراطية
وأظهر مفاسد المحسوبيات والاستثناءات واستغلال النفوذ والكسب غير المشروع وما إلى ذلك من مساوئ ترجع إلى العلاقات الشخصية أكثر من رجوعها إلى العلاقات الحزبية أو السياسية المذهبية.ولقد سرت في مصر فى السنوات الأخيرة بدعة آثمة يجب أن نضع حدًّا لها وهي اتخاذ الآراء السياسية سببًا للتنكيل بالموظفين وقلقلة أداة الحكم في البلاد وشل إنتاجها فكم من مرة تلغى استثناءات ويضطهد موظفون لا لعيوب أخلاقيةأو لانعدام الكفاءة بل لمجرد انتمائهم لآراء أو أحزاب سياسية معينة
تقييد الديمقراطية برقابة الحكومة لن يصلح حياتنا العامة وإنما سبيل الإصلاح هو إطلاق الحريات السياسية وعلى رأسها حرية الرأي وتمكين جميع المواطنين من أن يكونوا حكمًا على كل مذهب أو رأي سياسيٍّ يعرض عليهم ما دمنا قد ارتضينا النظام الديمقراطي والحكم النيابي أساسًا لحياتنا العامة حيث حرية الرأي مطلقة بالنظم والطرق المشروعة التي لا ينافيها استعمال العنف والاعتداء على حرية التفكير للآخرين ومحاولة إملاء رأي بالقوة
شعارات الديمقراطية الزائفه لم تستطع حتى الآن خدمة مصالح الوطن والمواطنين خدمه حقيقية
يرجع ذلك إلى الحالة العامة السيئة السائدة في البلاد والتي حرمت الشعب من أن يكون المصدر الحقيقي للسلطات
إن مبدأ سيادة الأمة لا يجوز أن يظل حبرًا على ورق وفي بلد سياسيٍّى كمصر لا بد من أن يستند هذا المبدأ إلى نصوص صريحة دقيقة بحيث يصبح حقيقة واقعة يأخذ بها الجميع إلى أن تنشأ في بلادنا تقاليد وأخلاق سياسية سليمة
ولذلك لا مفر من وجوب الإسراع في مراجعة كافة القوانين العامة لتخليصها من كل القيود الواردة على سيادة الأمة بل وتنفيذ تلك السيادة تنفيذًا عمليّا.
لا شك أن الاستقرار الاقتصادي إن هو إلا مظهر آخر للاستقرار السياسي وتحقيق الديمقراطية بمعناها السليم هي الطريق الوحيد إليهما وذلك لأن مجتمعنا يقوم على مصالح متفاوتة وأحيانًا متعارضة والتفاعل الديمقراطي هو الكفيل بخلق توازن بين تلك المصالح يهيئ السبيل للتقدم القومي العام بزيادة الإنتاج وأحكام العدالة في التوزيع
ولكن بقيت مهمة شاقة وهي توجيه ثمرة هذا الإصلاح نحو زيادة الإنتاج في البلاد فإننا نطمح إلى تنمية الإنتاج وتصنيع البلاد واستغلال منابع الثروة فيها وذلك لأن مثل هذه المشروعات الضخمة لا يمكن أن تتم إلا برضا المواطنين واتفاقهم ومراعاة مصالحهم أجمعين فلا بد من أن يطمئن صاحب رأس المال على مصيره كما لا بد أن يطمئن العامل على ثمرة عمله ولا بد أن يقوم توازن بين مصلحة المستهلك الذي يطلب الرخاء من كل سبيل
وبين مصلحة المنتج الذي يلتمس الربح ويطلب من الدولة حمايته ضد المنافسة الأجنبية.
وإطلاق الحريات الديمقراطية هو السبيل الذي يؤدي إلى قيام التوازن بين هذه المصالح المتعارضة على نحو يرفع عن الجميع أكبر ضرر ممكن ويحقق لهم أكبر نفع مستطاع.
ولقد كان من المتوقع أن يؤدي قانون الإصلاح الاقتصادى إلى توجيه رءوس الأموال نحو الصناعة فيقبل المواطنون على شراء الأسهم الصناعية الموجودة في السوق المالية أو على تأسيس شركات جديدة ولكنا حتى اليوم لم نر أثرًا محسوسًا لمثل هذا الاتجاه وإذا بنا نسمع عن تفكير في علاج هذه الحالة عن طريق تعديل قانون الشركات وقانون استغلال المناجم وعقد معاهدات مالية وتجارية مع الدول الأجنبية وبخاصة الرأسمالية منها لفتح أبواب بلادنا أمام رأس المال الأجنبي والاستغلال الأجنبي. ولا نظن أن هذه هي الحلول الموفقة لإنقاذنا مما نحن فيه من ركود اقتصادي
البحث عن الوسائل الكفيلة بإغراء رأس المال المصري وتجنيده لتصنيع البلاد واستثمار موارد ثروتها الطبيعيةوذلك حتى تظل خيرات بلادنا لبنيها وحتى لا ننكب باستعمار اقتصادي لا يقل في خطورته عن الاحتلال العسكري إن لم يَفُقْه أذًى
والاستقرار السياسي على أساس ديمقراطي سليم هو العامل النفسي الأول في إغراء المستثمرين على الاستثمار ومن هنا تظهر الحاجة الملحة إلى ضرورة الإسراع في إرساء الأسس الصالحة لنظام الحكم الديمقراطي المستقر في البلاد ومن الواجب ألا نكتفي بحلول مؤقتةوذلك حتى تستقر سفينة الوطن على بر الوصول ولا يطول تقاذف الموج لها بما يستتبع ذلك من قلقلة وعدم استقرار وانكماش في الإنتاج والتداول والمعاملات بوجه عام انتظارًا لما تستقر عليه الأمور على نحو ما نسمع كل يوم في كل مكان.
ولقد تراكمت في مصر منذ سنين مشروعات الإنتاج المختلفة والمصريون لا يشكون من عدم وجود المشروعات والتفكير فيها والدعوة إليها وإنما يشكون من عدم التنفيذ.
الدولة تحدد أولًا سياستها الاقتصادية وموقفها من عمليات الإنتاج وهل تريد أن تتولى هي كل أو بعض تلك العمليات أم أن تكتفي بالإشراف القريب أو البعيد تاركة للنشاط الحر القيام بهذه العمليات، أم تريد في النهاية أن تجمع بين التدخل والنشاط الحر فتساهم في تلك العمليات.
أن إيضاح هذه السياسة سيدعو إلى الطمأنينة ويمكن رجال الأعمال من الإقدام عن بينةوبذلك تبدأ حركة تصنيع جديد واسعة النطاق تدر الخير على جميع المواطنين.
وجميع رجال الاقتصاد يرون أن المسألة السياسية في الإنتاج هي مشكلة التمويل لأنه إذا وجد المال أمكن العثور على الخبرة في داخل البلاد وخارجها بسهولة ومن نشرات البنوك وصناديق التوفير والبريد. يتضح أن في البلاد رءوس أموال طائلة معطلة ولا شك أن أصحابها يتمنون أن لو أتيحت لهم فرص مأمونة لاستغلال تلك الأموال والاستفادة من ثمراتها والاستقرار السياسى
السبيل الأول لإغراء تلك الأموال على النزول إلى ميدان الإنتاج إما بشكل أسهم أو في شكل سندات وقروض ومن الواجب أن نسارع إلى خلق هذا الاستقرار والاطمئنان حتى نستطيع تجنيد كل تلك الأموال المعطلة.
من المؤكد في عالم الاقتصاد أن سرعة تداول الأموال لا تقل أهمية عن كمية تلك الأموال فالجنيه الواحد الذي يستخدم عدة مرات في عدة عمليات قد يثمر عن ثمرة إنتاجية لا تحققها عدة جنيهات لا تتداول غير مرة واحدة. وسرعة التداول أساسها الثقة.ولن ينتهي هذا الخوف إلا بالاستقرار السياسي ووضوح أهداف الدولة وخططها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
والاستقرار الاقتصادي لا تستوجبه الحاجة الملحة إلى زيادة الإنتاج في بلادنا فحسب بل تستوجبه أيضًا ضرورة تلافي القلاقل الاجتماعية التي قد تحدُث إذا انتشرت البطالة في البلاد وبخاصة بين الطبقات المتوسطة والمثقفة فضلًا عن الطبقات العاملة . بوادر البطالة تطالعنا بالفعل في كافة الميادين. والدولة مسئولة عن فتح ميادين للعمل لكافة المتعطلين وإلا التزمت بتمكينهم من الحياة بالتأمين ضد البطالة ومصلحة الوطن والشعب تقتضي تفضيل استخدام قوى الأفراد المعطلة على إعانتهم بدلا من تركهم متعطلين وذلك حرصًا على زيادة الإنتاج وتوفير الرخاء فضلًا عن صيانة كرامة الأفراد كبريائهم الإنساني.
وقد أصبح حق العمل وحق التحرُّر من الفقر والقلق والخوف من الحقوق التي تلتزم به الدول إزاء رعاياها ومن الواجب أن ينص على تلك الحقوق الإنسانية في دستور كل أمة متحضرة وأن تعمل كل دولة على جعل هذه الحقوق عملية نافذة.
وكل هذا لا يمكن تحقيقه بغير الاستقرار السياسي الذي يتبعه الاستقرار الاقتصادي لفتح ميادين جديدة للعمل والإنتاج المثمرة، وهي مسائل كبرى إذا خرجت من نطاق سلطة لا شك فيه أن استجلاء رغبات الشعب واتجاهاته السياسية لا يمكن أن يتم إلا إذا أطلقنا الحريات من كافة القيود وأبحنا تكوين جميع الأحزاب بلا قيد ولا شرط ولا اعتراض ولا ترخيص ولذلك ينبغي أن يصدر قائد الثورة قانونًا بإلغاء جميع النصوص القانونية المقيدة لحريات الرأي فتزول جرائم الدعوة لقلب نظام الحكم وما إليها وتنتشر في البلاد الدعوة إلى كافة المذاهب السياسية ثم تجري بعد ذلك انتخابات للهيئة التأسيسية على أساس هذه المذاهب والآراء الحرة. والأحزاب التي تنال الأغلبية في الجمعية التأسيسية يكون لها الحق في وضع الدستور الجديد على أساس الآراء والمذاهب التي تقدمت بها إلى الأمةفنالت ثقتها وتأييدها.
إطلاق الحريات من عقالها حتى تستنير الأمة وتتبين ما تريد ، إذا استقرت أغلبية الرأي العام على اتجاه سجَّل الدستور هذا الاتجاه وبذلك نضمن استقراره وإمكان تنفيذه واحترام الجميع له ولا يكون كتلك الدساتير العديدة التي وضعت فكلها دساتير ظلَّت حبرًا على ورق منذ مولدها ولم تُطبَّق يومًا التطبيق السليم لأنها لم تكن تستند إلى رغبات الشعوب الحقيقية ولا تتمتع بتأييدها وإنما استندت إلى نزعات فردية أو أقلية أو سلطات خارجية وكان من نتيجتها القلقلةُ المستمرة وعدم الاستقرار لحياة البلاد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى