قصة قصيرة : شهر زاد

علي السباعي | العراق

–  أنا أكبرُ عاشق في الناصرية.

وقعتُ في غرام القصة التي طرقتْ باب قلبي ولم تغادره، فصرتُ أُؤمن بأنَ القصة هي الحب!
تعلَمتُ من مدرسة الحياة أن الموسيقى والشعر هما أجمل ما يمكن أن تعطيه الحياة في هذه الدنيا باستثناء الحب.

لذا أحببتُ القصة “لأن العلاقة بين الإنسان واللغة هي كالعلاقة بين الرجل والمرأة، إنها علاقة حب”.
أغرِمتُ بالقصة.

نذرتُ نفسي لها. ويومها قالت لي:

أنا حبيبةُ أكبر عاشق في الناصريةِ .

ولدتُ في مدينة الناصرية التي يقسمها نهر الفرات الأسمر نصفين متساويين، وهذا الأسمرُ الفراتُ دائبُ الحضور في قصصي. إذ أنفقتْ أمي من عمرها عذاباً وألماً ليومين ونصف اليوم في الطلْق، وبمساعدة القابلة ليندا بشاره التي جاءتْ إلى العراق ممرضة مع القوات البريطانية التي احتلت العراق عام أربعة عشر وتسعمئة بعد الألف، وأحبّتْ ضابطاً عراقياً من أهالي الناصرية، وتزوجها بعدما أشهرتْ إسلامها، وبنتْ جامعاً في الناصرية، ولقد ولدتْ أغلبَ نسوة المدينة. أظهرتْني إلى النور يوم الخميس العاشر من شهر حزيران عام سبعين وتسعمئة بعد الألف صباحاً عند الساعة التاسعة والنصف تماما. إذ خرجْت القابلة ليندا لتقول لجدي لأُمي: يا حاج “جابت” ابنتُكَ ولداً فماذا ستسميه؟

علي… علي… “صارلنه يومين ونص نقول يا علي”.

كان جدي لأُمي صاحِبَ صوتٍ شجي، وكان رحمهُ الله أذا غنّى يُفطِر القلوب. كانت عائلة أمي عائلةً شيوعية، وكان خالي الأكبر عضو لجنة محلية الناصرية في سبعينات القرن المنصرم، وكانت عائلة أبي عائلة متدينة، وكانت كلتا العائلتين تشتركان بحب العراق حباً جماً عجيباً لا مثيل لهُ.

أذكر هنا قولاً لأبي المهندس الزراعي: بُنَي علي، إن العراق مثل شجرة مثمرة ترمى بحجر، والعراق أنفق عمره على مدى الدهور نخلةً مباركة تُرمى دائماً بحجر، والعراقُ يردّ بأحلى الثمر.
كان أخوالي يسحبونني صوبهم، ومثلهم يفعل أعمامي، كلّ واحدٍ منهم يُريدني أن أنتمي إليه، وكان جدي الثالث لأبي قد حارب مع الشاعر محمد سعيد ألحبوبي عام أربعة عشر وتسعمئة بعد الألف ضد البريطانيين.

بعد استشهاده أخذ الإنكليز رأسه معهم إلى بريطانيا بحسب أوامر الملكة فيكتوريا، وكان جدي لبسالته وشجاعته استطاع أن يُنزِل علم الملكية من على “قصر الزهور” إبان قيام الجمهورية بعدما فشل كل أقرانه الجنود. فعلها رغم غزارة الرصاص، وكان أحد أعمامي خطاطاً ماهراً تتلمذ على يد الخطاط المعروف هاشم محمد البغدادي وقد أسرتني حروفه التي يصوغها من الحبر الصيني، واستهواني الخط العربي وسحرتني القصبة وكيفية “قَطها” لأخطّ بها حروفي.

 كانت أغلبُ بيوتات الناصرية من القصب، وكان لنا جيران منزلُهم من قصب، فكنتُ أذهب إليهم لأطلب منهم القصب، فتستقبلني ابنتهم الزنجية شهرزاد التي كلما ذهبتُ لأطلب القصب كنتُ أجِدها مُمسِكةً بكتابٍ تقرأُ فيه ومن حولِها أمها وأخواتها، فسألتْني ذات ضحىً: لماذا تحبُ الخطّ؟
أجبتُها بما كنتُ أسمعه من عمي الخطاط: الحرفُ كالمرأة الفاتنة، فلو أخذْنا حرف الألف في خط الثُلثُ ففيهِ صدرٌ وعجزٌ، إِذِنْ هو كالمرأةِ!

ضحكتْ لكلاميِ بملء روحها البيضاء حتى أن عينيها السوداوين الحراقتين لم تستطيعا أن تكتما فرحة روحها، وأمُها وأخواتُها يسألْن: ماذا يقول ولماذا تضحكين؟ تجاهلْتهم وقالت لي بحنوّ، وضحكتُها إلى الآن تملأُ روحي محبة: ابن عربي يقول: “إن الحروف أمم”

لحظتَها صمتُّ لأنني لم أعرفْ بماذا أجيب، فمسدتْ على فروة رأسي، وقادتني شهرزاد من يدي اليمنى داخل “الصريفة” وأعارتني كتاباً قائلةً بحزم: يا علي إنك خُلِقتَ لتكتب.
كان الكتاب “السيد معالي الوزير” لنوال السعداوي. بعدها، أعارتني رواية “الصخب والعنف لوليم فوكنر. أعدتُ إليها فوكنر، فأعادتْ إليَّ فوكنر في “نور في آب”، فصارت شهرزاد تشرح لي كل شيء، وعلى مرِ الأيام صرتُ أقرأُ، وأقرأ بنهم من دون أن أفهم شيئاً مما أقرأُه.

ذات مساءٍ جميل مثلها، سألتني شهرزاد بعدما أعدتُ إليها “الشيخ والبحر” لهمنغواي: علي، ما الأدب؟

لحظتها، خجلتُ ولم أُجبْها، وأطرقتُ باكياً، لأنني حقيقة لا أعرف ما هو الأدب!

مسحت شهرزادُ بيدها السمراءَ على رأسي بحنان وكأنها تعتذر عن إحراجي، وقالت: يا علي، سارتر يقول “إن الأدب تمظهرٌ لحرية الإنسان”. لحظتها، أجهشتُ ببكاءٍ مر، وهربتُ من خربتهم لأنني لا أعرف ما تقوله ولا أعرف من هو سارتر.

لقد أربكتني!

انقطعتُ عن زيارة شهرزاد لأيام، فزارتني تسأل عني، وأهدت إليَّ “ناظم حكمت”، ومن يومها وأنا أتعذب!

جئتُها ذات يوم فرِحاً بعدما خرجتُ من المدرسة، فقلتُ لها مسروراً والدنيا كلها لا تسعني: شهرزاد، لقد قبّلني المحافظ.

فقبلتني هي بدورها فرحةً، وطلبتْ مني أن أروي لها ما حدث، فرويتُ: “جاءَنا المحافظ، وزار صفّنا، وطلب منا أن نُعرّف الاشتراكية، فملأتُ الصفّ صراخاً: أستاذ… أستاذ… لأن زملائي لم يعرفوها، وكان مدير مدرستنا ينظر إليَّ متوعداً، ومرشدنا يؤشر بيده أن أصمت وهو يعضّ بأسنانه على شفته السفلى بعصبية أن أجلس، فطلب مني المحافظ ُ أن أعرّفها، فعرّفتُها له مثلما عرفها خالي عضو لجنة محلية الناصرية لأحد رفاقه، فتقدم المحافظ إلى رحلتي التي كُتِب عليها بطلاءٍ أحمر فاقع كالدم: جيل الثورة. وانحنى عليَّ وحملني بين ذراعيه وقبّلني. أقفل راجعاً وهو يخاطب حاشيته: أتعرفون أنّ لي رفاقاً لا يعرفون الاشتراكية.وغادر…

كانت شهرزاد تنظر إليَّ بفرح وهي تبكي، فأخذتني من يدي اليمنى داخل “الصريفة”، وأعطتني دعوةً لحضور عرض مسرحي هي بطلتُه يُقام على بهو الإدارة المحلية في الناصرية.

ذهبْتُ أنا ووالدي لحضور المسرحية، شاهدتُها تطير على خشبة المسرح كفراشةٍ سوداء ببدلة حمراء زاهية، تردد “نهاية الترتيل”: “يأتي الميلاد دون أن يفهمه أحد، ويأتي الموت دون أن يفهمه أحد، وبينهما تدرك الكائنات كلّ شيء…”.

في اليوم الذي أعقب العرض المسرحي ذهبتُ كعادتي إلى “خربتهم” فوجدتُ شرطة الخيالة يملأون الزقاق، نهروني بعنف، ولم أتزحزح، فعلمتُ أن أحد أخوالها قد ذبحها! ذبح شهرزاد، لأنها جلبت العار لهم كونها تمثل، فحزنتُ، ولم أبكِ لأنني علمتُ أن الزهور عمرها قصير.

انتهى بي الأمر إلى الخيبة التي غمرت حياتي، حياتي صارت كلها باهتة. بلا طعم مثل فيلم باهت. صارت حياتي تطبعها العزلة والقراءة والفشل المتواصل.

كان حزني شديداً على شهرزاد الذبيحة التي ما انفكت تردد دوما على مسمعي ما قاله جواد سليم: “لا يمكن لكَ أن تأتي بجديد ما لم ترتكز على القديم”.

ترى، هل ذبْحُها هو الجديد الذي أتت به الحياة إليَّ؟ آه! كنتُ ذاهباً لأخبرها أنها في العرض المسرحي كانت جميلةً بالبدلة الحمراء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى