بائعُ المزامير

نور الهدى شعبان | سوريا

بينَ مسافاتٍ متعجرفةٍ لا تعرفُ العزفَ على اوتار اللقاء ،
بينَ مساحاتٍ ملوَّثةٍ عمداً شوَّهَتْ الصَّفحاتِ المكتظَّةِ بالحنينِ ،
بينَ النَّوافذَ الَّتي تمتصُّ الأوكسجينَ منِّي وتنفثُهُ إليكَ ،
بينَ دوائرَ الضَّبابِ خيوطٌ معلَّقةٌ بكفَّيّ ترقصُ على حافَّةِ الوقتِ المسربلِ بالانتظارِ ،
تعاندُ عقودَ المشانقِ الملوَّنةِ لتنسجَ منها حلماً رضيعاً يتغذَّى على أشلائي المبعثرة ويرضعُ حنيني ببكاءٍ أصمٍّ ..
في رحلةُ البحثِ عن الأنا الشَّبيهةِ بمنتصفِ الأربعينَ انتهَتْ وهي تمضي حافيةَ القدمين فوقَ زجاجِ النَّوافذِ المحطَّمةِ مخلِّفةً وراءها نزيفَ المنايا الملطَّخةِ بالآثامِ ..
تَذكَّرَتْهُ حينَ أرسلَ لها دعوةً خاصَّةً على مائدةِ التَّمرُّدِ، شهدَ عليها ليلٌ انسلخَ عن جلدِهِ فجأةً ليعانقَ نجمةً وحيدةً تجيدُ الرَّقصَ في الهواءِ ..
اللَّيلُ الَّذي كانَ صامتاً فتحَ فكَّيهِ على لونِهِ مخربشاً بكلماتٍ لم تعرفْ طريقَ دفاترِها بعد ..
اللَّيل : أنتِ في النِّصفِ الآخرِ من بلدِ الأمنياتِ المعلَّقةِ ، رأيتُكِ تجدلين شعرَك سرَّاً من سنابلي وتعلِّقينَ عليه ما تشتهينَ من نجومٍ .. أنتِ ياصغيرتي لا تخشي شيئاً ، فالوحشُ المزعومُ يقطنُ في القصصِ ، أمّا أنتِ فروايةٌ مفقودةٌ شوَّهتها أنغامُ بائعَ المزاميرِ …
طيف : بائعُ المزامير ؟
اللَّيل : أجل !
طيف : ومن يكونُ بائعَ المزاميرَ يا سيِّدي …
اللَّيل : ذاكَ الَّذي أتقنَ صناعةَ المزاميرِ خلسةً عن حرَّاسِ المدينةِ ، يتجوَّلُ برفقتِهِ طائرٌ أسودٌ و هرَّة ، يطلقُ أنغامَ الحياةِ من مزمارِهِ الخاصِّ ، يتجمَّعُ حولَهُ حشدٌ من سائليِّ الطُّرقِ المثخنةِ بالأوراقِ الممزَّقة ، يستمعونَ له فيغويهم بسحرِ ما يبوحُ بِهِ مزماره ، يتسابقون لتناولِ المزاميرَ منه وهم على درايةٍ بأنَّها أعوادٌ من قصبِ السُّكرِ الّثي فقدَتْ حلاوتَها لكثرِ ما نفخو بها من الألمِ فهربَ منها النَّغمُ وتقيأت انفاسَهُم الفارغةُ من الفرحِ ..
كانَ يعزفُ ليلاً عندما دعاكِ عامداً إليه ، لكنًّ صدى الشَّارعِ سرقَ صوتَه ..
كان ينعمُ بصمتِكِ ويشتهي من صوتِكِ كأسَ حنينٍ غيرَ مشوبٍ و ثارَ بِهِ الطَّمعُ ليقتنصَ نغمَكِ الفريدِ …..
طيف : لقدْ غدرَ بي أليسَ كذلك ..
اللَّيل : لا يا عزيزتي لقدْ نجوتِ وانتصرتِ ،
رحلَ هوَ و رحلَ بائعُ المزاميرِ وبقيَ المزمارُ الَّذي يكتظُ بألحانِ الجميعِ على المائدةِ ..
طيف: حسناً سأطلقُ سراحَ كلِّ الأنغامِ الَّتي سرقَها بائعُ المزاميرِ و أحرِّرَها ..
سأجمعُ عليها نثراتِ الزُّجاجِ الملطَّخةِ بالأوجاعِ و أعيدُ تشكيلَ النُّجومِ الَّتي فقدَتَها مساماتُك المظلمةُ لتضيءَ من جديدٍ ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى