السينما

د. تامر محمد عزت | مصر

Raymond Leech British painter born in 1949

كنت في أمس الحاجة تلك الليلة أن أسمع قصة من الماضي، الماضين الذي لن نعرف طريقًا للعودة إليه ، ولم يتبق منه سوى الحنين والكثير من الذكريات، في جلسة مسائية مع صديقى ويصاحبها مشروب الكركدية الساخن حكي لي تلك القصة :

في عصر يوم من أيام الصيف كان هناك مجموعة من الشباب لم تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة عاما، يلعبون في الشارع مثل أي مراهقون في نفس أعمارهم، كان لهم مكانًا مميزًا للعب كرة القدم وهو الشارع الذي يقع على ناصيته السينما القديمة، عددهم في ذلك اليوم ستة شباب، ولأن لم يحضر الباقي للعب معهم؛ لم يتحمسوا لأن يلعبوا بمفردهم، كادوا أن يفقدوا شهيتهم للمواصلة، ففي مثل هذا الزمن لم يكن هناك إنترنت ولا كمبيوتر يجعلهم يعيشون في جزر الانعزال الاجتماعي، غير أن أحدهم قد قدح ذهنه لفكرة ما وأشار للقيام بمغامرة بسيطة وهي دخول السينما القديمة، تحمس الجميع بشكل مفاجئ وقرروا جميعا خوض هذه التجربة.

باب خشبي قديم متهالك هو باب السينما، به فتحة متوسطة الحجم تصلح للعبور من خلالها ومناسبة لأحجامهم أيضا، كان الداخل عالم آخر، فهي مسكن دائم للقطط والكلاب الضالة، كراسي خشبية قديمة متهالكة، يكاد لونها البني يندثر من فرط التراب عليها ، مقر للنفايات والقمامة بالداخل وكأن من ألقاها لاعب ماهر في البولينج ، على يسارهم حائط كبير هي بالقطع شاشة العرض، رائحة أتربة قديمة منذ سنوات طويلة لدرجة أن أحدهم سعل بقوة وكان له صدى صوت عندما يسعل جعلتهم يضحكون ، لأول مرة يشاهدون خطوطا ذهبية لأشعة الشمس تخترق الفضاء الملوث وتضع إضاءتها على الحائط المتمثل في شاشة العرض، وبسرعة اتفقوا فيما بينهم لعمل مشاهد لمسرحية قديمة على المسرح أمام الشاشة، كانوا ثلاثة يقومون بالتمثيل واثنان وقفوا يضحكون ويستمتعون.. أما الأخير فقرر أن يشاهد الجانب الآخر من السينما .

كلما سار صديقهم إلي الداخل كانت رائحة الأتربة تزداد حدة ونفور، تذكر أن معه منديلاً من القماش أخرجه من جيبه وربطه حول وجهه، بدى ملثمًا لما لا يُرى من وجههِ غير عينيه، خرج من صالة العرض ليدخل مكانا ضيقًا ، يبدوا أنه مثل بار قديم، وتعجب لرؤية أفيشات سينمائية ملونه لأفلام أبيض وأسود قديمة جدا، كانت معلقة على الحوائط بشكل غريب وتساءل لماذا لم يتم إزالته حتى الآن؟،
تسمرت قدماه عندما سمع أصوات بالداخل، لم يتوقع وجود أحد، كلما تقدم بالسير كلما زاد وضوح الصوت، سار متتبعا مصدر الصوت على مهل، حتى وجد إضاءة باهتة في حجرة صغيرة وظلال لأشخاص تتحرك في قلق على الأرض التي تقبع خارج الغرفة ، خفق قلب الشاب واضطرب من الخوف ولكن فضوله وحبه للمغامرة دفعه لأن يسير على أربع ،وببطء شديد أدخل رأسه بحذر ليرى ما لم يتوقع.
قام من مكانه بسرعة وركض محدثا أصواتا فوق ورق أفيشات السينما المبعثرة على الأرض، هرول نحو أصدقاءه وبلهجة صارمة طلب منهم التوقف عن هذا العبث والخروج فورا من هذا المكان، لم يفهم الباقي وعلامات الاستفهام حول رؤوسهم ودون جدال خرجوا جميعا من السينما واستنشقوا الهواء المنعش وملئوا به رئتيهم بعمق، كان صديقهم شديد الاضطراب، وانتقل القلق إلى قلوبهم وعذروا واتسعت عيونهم وأُسقط في أيديهم لما سمعوه.. وكان السؤال الأهم..ماذا سيفعلون؟

(وبعد ساعتين)

انتقل المشهد الآن إلى قسم الشرطة ، انتظر الراوي للأحداث بالخارج خشية المواجهة، وتطوع أحدهم للكلام بالنيابة عنه ، حيث جلس أمام مأمور القسم وحكى له ما فعلوه بسلامة نية وعدوى الفضول، بداية من دخولهم السينما القديمة ، ثم اللعب على المسرح، وبعدها قص عليه ما دار داخلها وأنه رأى بعينيه صناديق كبيرة بها أكياس بيضاء وحقائب أموال وأشخاص يقومون بمراجعتها، ولأن الإضاءة كانت باهتة لم يُميز ملامح أي منهم إلا شخصا واحداً كان يجلس في ركن ما يراقب الجميع.

باهتمام قام مأمور القسم من مكانه وصافح الجميع وأعرب عن شكره وتقديره وأنه سيهتم بالأمر وأنه في حالة أي جديد سيرسل لهم من جديد، سعد الجميع بهذه النهاية وعند خروجهم انتبه صديقهم الذي كان يقف في حوش القسم بمفرده شيئا، لأمر ما وقف فجأة عن السير وتسمر في مكانه، ارتعدت فرائصه عندما عاد بالذاكرة للحظات وتذكر شيئا جعلته يشهق، حينها، وجد مأمور القسم ينظر إليه من خلال نافذة مكتبه بعيون شيطانية حادة وعند الحائط الخلفي ملابس مُعلقة..كانت هي نفس الملابس التي كان يرتديها عندما كان موجودا بالغرفة الداخلية للسينما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى