فن قراءة التاريخ الفلسطيني في شعر محمود درويش
د. الغزيوي أبو علي
مختبر اللغة و الفكر- فاس
فبعد الازدهار الكبير الذي عرفته القصيدة العربية في المدرسة الكلاسيكية، ظهرت عدة اتجاهات لمخاطبة الذات وتطويرها قصد مواكبة العصر ومستجدات الحضارة الرومانسية، وكان من أهم الاتجاهات مدرسة الديوان 1916 وجماعة المهجر 1920 وجماعة أبولو سنة 1932 حيث ظهر الخطاب الرومانسي نتيجة الاحتكاك بالثقافة الغربية، و من أهم مرتكزاتها:
1- الذات. 2- شمولية الرؤية الفنية 3- الصدق الفني والتأثير في المتلقي.
وهذا يمد هذا النص بمجموعة من الطرحات التي تحضر المدرسة الرومانسية والمدرسة التقليدية وهذا ما يراه الناقد بأن الرومانسية هي ثورة على تقاليد و الأعراف و القيم و عن الفن و الأدب و المجتمع وأن من أبرز مميزات هذا الاتجاه الرومانسي التعبير المعاصر عن الفرد بذاته، مما يعكس ويعبر عمق الأحاسيس، فالشاعر هو التعبير عن الشعور الصادق، لأن الأبعاد الإيحائية الرمزية والغنائية والوجدانية جعلت الرومانسيين يخترقون مجال الصورة في كل أبعادها مستخدمين إصرار النفس في الاتجاه المطلق، لأن الشعر هو غنائي والقصيدة لحن المشاعر تختمر فن نفسية الشاعر و وجدانه، هكذا اعتمدت الرومانسية عدة مفاهيم منها:
1-الحرية: يعني الهروب من المجتمع، إلى الطبيعة والعيش بالفطرة والتحرر من المعتقدات التي تحد من حرية التعبير.
2-الحب: و هو جوهر الكون و مصدر الإلهام و منبع الدعر و الجيان.
3-الطبيعة أو الغاب: هو الملجأ الآمن من شقاء المدينة، لأن الطبيعة رمز الطهر و التقاء و الصفاء.
لذا يمثل الرومانسيون هذا الطابع الرمزي من خلاله يحاول الشاعر أن يعمق مشاعره الداخلية وأحاسيسه وانفعالاته لتصوير الطبيعة.
إذن يمثل الرومانسيون (الخيال) هذا الطابع الرمزي الذي من خلاله يجاول الشاعر أن يعمق مشاعره الداخلية وأحاسيسه وانفعالاته لتصوير الطبيعة. كالشاعر محمود درويش، فهو الشاعر الذي خاطب الكون، والإنسان، والتاريخ، ومزج بين الجسد والروح، وبين القلق الوجودي وبين المحنة الإنسانية، وجعل الرغبة مدخل أولي للفرد، والجماعة، وأن الشعر شكلا من أشكال الكتابة الجديدة، لأن محمود درويش صديق الحكمة، والشعرية، وعاشق للتفلسف الشعري، وانتصار لموقفه ولفكره، فدرويش ضد عقدة الهيمنة، ونهاية التاريخ، ومحب للرحيل داخل الذاكرة والوطن، و الحرية.
يتخذ المكان لدى درويش أبعاد طبوغرافية تحكمها المقاييس ويتكون من مواد مادية ورمزية، ويأخذ جذريته من خلال اللغة، فهي الأداة التي بواسطتها يخترق الشاعر المألوف، فاللغة تنسج الواقع الممكن برؤية جمالية، لأن ما يهمني في هذه المقاربة الأولى، محاولة تعريف هذا المكان الذي هو وطن الذات والأنا، حيث حالة الارتباط المشيمي، والوجودي والفكري، ويتحول الزمن ليأخذ أزمنة تاريخية و أسطورية، و تكون الذات الشاعرة ديوانا مفتوحا قادرا أن يستوعب الشروط المعرفية والفنية، والجمالية، فالشاعر محمود درويش بنى لنا عالما غير العالم الذي نعيشه، يكتنفه الغموض، و الرمز، و اللغة، و الغرابة، فراح يثور المفاهيم و يغير أبنية الوعي العربي وذلك عن طريق سحر اللغة، و هذا الشعر هو الهوية، والشخصية، والوطن والحرية، وكذا البنية اللاشعورية الثانوية في العقل العربي المعاصر، إنه جنة عربية ضائعة في عالم معولم، وحين يستدعي هذا المفقود بوصفه حالما ضائعا، فإن الوطن يحضر بكل أبعاده الجغرافية والتاريخية و البشرية.
وذلك عبر اختراق خيالي يستوعب كل الفضاءات المحتلة كحيفا و يافا، و جنين… التي تشكل جسد فلسطين، فالشاعر درويش يحاول أن يرحل بنا من قارة إلى قارة لتعبر عن نسق أكثر شمولا لمفاهيم الوجود لدى هذا الشاعر ذاته و للثقافة التي ينتمي إليها، و انطلاقا من هذا الشعور التركيبي و الدلالي نستكشف أن يقوم بتشكيل أنساق مكانية التي تتمحور حول فلسطين بدرجة إبداعية متواترة و بصورة ملحوظة في قصائده، لأن تجربة المنفى تبقى ضرورة حتمية تصاحب هذه الذات أو تسبقه عبر الاستباق، بوصفها معاد لا شعريا لفكرة الوطن في المنفى، ففلسطين لن تموت رغم القيد و الدمار، كما يقول درويش، وإذا كان المكان غربة الوجود، أو كغربة الرحيل، لأنه يمثل مخيلة تراوح بين الداخل و الخارج.
إنه البنية الثاوية العميقة لمفهوم هذا المكان، حيث يتخذ هذا الفضاء مسارا خطيا لا يقتصر على محور اختياري للكلمات، بل يعتمد على النسق المكاني الضامن بفلسطين، فالنور يشكل بؤرة أو مركز يستقطبه القارئ بشكل تفصيلي، حيث يرتبط بالولادة، وبالحياة، و بالكوكب الثابت حول المركز، لأنه المفتوح والمغلق و المتسع والضيق، فينتظر الشاعر محمود درويش ظهور بشارة العودة إلى أصله، يظهر إذن هذا الممكن العودة في سياقات شعرية لتشير إلى أنغام إيقاعية ترفع أصوات الشاعر إلى أوطان التي تلاحقه في صمت نحو قرار نهائي، إذن كيف يمكن اختزال هذا الثراء الشعري؟ فلابد أن يتحدى تغوم المألوف، وعبقرية الجهال، وبلاغة الفقهاء لكي نصل إلى بر الأمان الشعري، فالشعر هو الإطار الفكري لعملية الإدراك الذاتي، بمعنى أن الشعر هو ترسانة من القيم والمعرفة، والفكر، إذن فهو يشتمل على الإنتاج الأدبي و الفكري و الفني، بهذا المعنى فالشاعر هو الذات، والشعر هو المجال الذي يحول الأنا العابرة إلى نظام يتسم بالتماسك من ناحية، كما يتسم بالتماس العضوي بين الداخل و الخارج، لأن درجة الشاعر لا تستقيم عن طريق الموروث الشعري، بل بالخصوصية الحضارية والصورة التي يكونها المجتمع لنفسه، فالشعر يرتبط أيضا بتحديد دور هذا المجتمع الفلسطيني، فهو أمر منوط بمثقفي الأمة الفلسطينية ودرجة وعيهم بالأنساق المشكلة لثقافتهم ومدى قدرتهم على تجاوز كل الأنماط من أجل الحضور الإبداعي.
فلا شك أن الشعر الفلسطيني قد طرح عدة أسئلة دالة على التفاعل النصي بين مكونات الذات المبدعة و بين العالم الخارجي من ناحية ثانية، فالشعر الفلسطيني هو الحقيقة المرتبطة بالقضية الفلسطينية و هذا ما ذكره في قصيدته <<مأساة النرجس وملهاة الفضة>>.
حيث يقول في هذا المقام:
البطل المخرج بالبدايات الطويلة
قل لنا كم مرة ستكون رحلتنا البداية
فالشاعر محمود درويش في هذه القصيدة، يحاول أن يوصلنا إلى البداية واللانهاية وإلى الهوية والتحديث، فالشاعر بشعره قد غزى كل الأوطان برؤية فنية دون الاندماج في دوائر الاستلاب ودون محرك جدلي بين الاستلاب الصهيوني والتغيير العربي، و هذا الوعي النقدي الذي يباشره الشاعر يدفعنا إلى النظر في الحياة اليومية بكل حرية لمواجهة البنيات الفكرية الكلية، قصد عقلنة الذات كبعد سلطوي، و لغوي، و فكري نقدي، فالشعر هو عتبة عليا التي من خلاله نعيد النظر في التاريخ و تفكيك البنيات الفكرية، لذا يقتضي منا إلى إعادة تركيب البنية الشعرية العربية.
إن مايسمح لنا لرؤية واقعنا الشعري المعاصر، هو هذا الواقع الثقافي والفكري من أجل إعادة المكبوت التاريخي لكتابة تاريخ، جديد يثور الكائن لكي يمارس حقه في التعبير والتأويل.
فالشعر الفلسطيني هو التجلي الأسمى والمعبر عن الوجدان التاريخي والفكري، وأيضا التفكير في اللاشعور و الخيال، لأن القصيدة هي البنية الثقافية المعاصرة، تتميز بوعي وبإرادة وفوة قادرة على التجاوز والتخطي، و بأسئلة التي تمس وجود الإنسان الفلسطيني، فالشاعر -محمود درويش- يطرح أسئلة زمكانية و وجودية –من نحن-كيف أنا-أنا الماضي-أنا الحاضر-أن الإنسان و الفكر-والقيم-و الوعي-و المعرفة- فطموح الشاعر هو امتداد انطولوجي يتحقق العودة إلى الأرض المسلوبة حيث يختزل التاريخ في الكتابة لتكون هذه الذات المقهورة والمنكسرة تحترق بالمنفى وبالاغتيال الرمزي، وبالشهادة و يقول أجد النقاد <<إن الشاعر يختار من بين أحداث التاريخ الممتد من آدم وزمن الأنبياء، و مرورا بالغزاة الذين تعاقبوا من تتار و هكسوس و يونان و رومان حتى الغزو الصهيوني، يختار الشاعر أحداثا بعينها، أو بمعنى أدق يختار صور الشعرية تحيل إلى أحداث ويوظفها لإعادة بناء الذاكرة٠>> (إضاءة النص-اعتدال عثمان ص-151-). فالشاعر درويش يتفاعل بشكل أفقي لكي يرتبط بالفرد كذات و كجماعة، و بالتالي فإن اتصال الفرد بالآخرين و نظام علاقاته بهم يتحدد بهذا المنظور الفينومينولوجي للاتصال كما يتحدد أيضا بالواقع الاجتماعي للأفراد، فهذا الاتصال بين الفرد والآخرين ينمو عند الشاعر من العلاقات الاتصالية والأدوار المترابطة بين الذات والمجتمع كلحمة واحدة، ويأخذ هذا النمط الشعري الاتصالي من التطور عنده أدوارا اجتماعية، ويعني ذلك أن العملية الاتصالية تتطور وتتحقق في سياق الأدوار التي يقوم بها الفرد (طلعة منصور-سيكولوجية الاتصال ص138-فالشاعر محمود درويش يبدأ برحلة مكانية مفتوحة غير مسيجة، مما يجعله يبني قارة ابستيمية تشكل بؤرة لهذه الذاكرة في السياق التاريخي ويقول في هذا العدد:
يا نشيد خذ العناصر كلها
و اصعد بنا دهرا فدهرا
كي نرى من سيرة الإنسان ما سيعيدنا
من رحلة العبث الطويل إلى المكان-مكاننا
فصيغة النداء في العبث الطويل، وهذا الامتداد الزمكان هو امتداد في التاريخ و في الحضارة، امتداد نحو الممكن دون محو الماضي، التقليدي المرتبط بالهوية، والوطن لكي يكون نعشا أمام الجيل الجديد، هكذا يرحل بنا من مكان إلى مكان، و من مدينة إلى أخرى، ومن أسطورة إلى أسطورة و من تاريخ إلى تاريخ، حيث يقول:<<أنت أدرى بالمكان، وقوة الأشياء فينا، أنت أدرى بالزمان>>.
فمعرفة الزمان هو معرفة التاريخ، و الولادة والهوية، لأننا نعيش في عالم مليء بالتناقضات والانكسارات، فلم يعد الفلسطيني يقبل الاحتلال و لا الذل، يريد أن (اصعد ما استطعت إلى الإنسان، فأنت أدرى بالمكان، وأنت أدرى بالزمان). فالشاعر درويش يندمج مع الجماعة لكي لا يكون وسيلة، بل غاية في ذاته و لذاته، و أنه قادر على تجاوز كل المقاييس المسيجة لأجل بناء ذاتها كليانية، تنسج تاريخها، وفكرها وحضارتها ويقول<<و عادوا من أساطير الدفاع عن القلاع إلى البسيط من الكلام، عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم، ويزوجوا أبناءهم لبناتهم.>>. فالشاعر يخبرنا برسائل معينة، تحمل معرفة و غالبا ما يستعمل هذا الشعر الإلتزامي بعبارة (جان بول سارتر) غرض الإبلاغ ولهذا فدواوين الشاعر تحدد المكان المنفي ليجعله يدل على الأخبار والسلوكات، و المشاعر، لأن الشعر هو تواصل ومحاورة و تفاعل و يقول اعتدال عثمان في هذا العدد <<إن درويش في الحقيقة، إذ يستعيد ذكريات ما هو مرتقب بحس ساخر، مدرك لطبيعة المفارقة المزدوجة بين الحدث المتصور و أشكال تحققه غير المتوقعة من ناحية ثانية، إنما يكثف إحساسا بمأساة النرجس أو مأساة الواقع>>ص155. فالشاعر محمود درويش في كل دواوينه كما ذكرت سالفا، يغاير المألوف، ويزرع الاختلاف في الإئتلاف، ويوحد بين الذات والموضوع الخارجي، بلغة شاعرية ايروسية، لا تعرف المهادنة، ولا الاستسلام، بل خلخل كل الترسبات الشعرية بوعي جدلي لا يلغي المرجع، بل يكون عبارة تناقصات مؤجلة، من هنا نستكشف أن هذا الذات الهاربة من جالوت، و فرعون، و أيولون، ومن شهريار فتحت لنفسها أبوابا لكي يستقرئ هذا الواقع المأساوي، واقع يرزح تحت الاحتلال ويصرخ أمام الصخور الأممية، فمنذ سنة 1948 و1967 لا زال الفلسطيني يكابد ويعاني من مرارة الاستعمار كما يقود خليل حاوي، لذا فالشاعر الفلسطيني – محمود درويش- لايستسلم ولا يدعو للوئام، بل يسائل الكون والإنسان، والحرية لكي يجد لهذه الذات المؤسلبة تاريخها و هويتها، إذن هنا يكمن سحر الشعر و رسالته، لأن الشاعر لا يكون شاعرا إلا إذا أبدع، و ابتكر لهذه الهوية تاريخها، و لغتها و حدودها، و أعلن عن ولادة جديدة لهذه الملحمة الفلسطينية، لا أن يبقى أسير السجون، فتحية لكل فلسطيني الذي لا يزال يحارب القهر، والفقر، وينتظر أن يأتي كودو أو لا يأتي، يريد أن يعيش حرا لا أسيرا ولا مقيدا، أن يبني دولته كما يراها لا كما هي الآن، فمحمود درويش يصخر في وجه المرأة، عارضا براعته الفكرية والنظمية لكي يكون ضد هولاكو، وإنه سيزيف العربي الذي لا يلوك أطياف الذكريات، بل يصرخ في وجه المحتل بالكلمة، و بالقلم، و بالذات قائل: إنه منتصب هنا، لايخشى الموت، يبعث بالفينيق، لا يركع للظالم، يصلي في محراب مريم، ينشد شعرا لنا لكي يكون قانونا لهذا الفلسطيني الذي يواجه العدو لا يستسلم للذل والهوان، بل يحمل صخور الأيام لكي يحاسب الذاكرة الأممية، هكذا هو الإنسان الفلسطيني العاشق للحرية، لا يقبل الاعتراف بالخطيئة، ولا بالمصالحة الامبريالية، بل يقبل أن يعيش فوق أرضه، و تاريخه، لا أن ينتظر من ذاك الأمريكي أن يبني له بيتا من القش، يموت ويحيا في وطنه، و تحية لكل قلم طائر في سماء الحرية ولكل فلسطيني حالم وثائر ورجل في سفر يترنح و هو يتوج امرأة بضفائرها ويعانقها و يقول لها يا ضوء الحب، و يا لغة يستولد منها وبها و لها هذا الطفل المذكور هو عبد الوهاب البياتي، فالشاعر محمود درويش يحارب كل البنى الذهنية المفارقة، و هذا القصور المغلق حيث يقول: – وعادوا من أساطير الدفاع عن القلاع إلى البسيط من الكلام.
-لم يرفعوا من بعد أيديهم ولا راياتهم للمعجزات إذا أرادوا وهذا ما نراه في دواوينه: أوراق الزيتون.
و عاشق من فلسطين، و آخر الليل، و أحبك أو لا أحبك-أعراس ، فهذه الدواوين تختلف حسب اختلاف المواقع و المضامين، سواء من ناحية البناء الفني أو الجمالي، لأن الشاعر درويش تفنن في اختيار التيمات لتكون اعلانا صارخا أمام المحتل و لتكون كونا وفضاءا تجمع أطراف القراءات الشعرية، والنقدية، ووصلة ايديولوجية لمحاكمة الواقع و الأحلام، فلم يقتصر على التيمات، بل اعتمد على بنية موسيقية كصيغ متناظرة، تحمل في طياتها التوتر و التماثل الصوتي كما يقول:
ستمطر هذا النهار
ستمطر هذا النهار رصاصا
ستمطر هذا النهار.
وهذا التكرار يجعلنا نستنشق وظيفة موسيقية تحمل دلالات تختلف عن الصيغ الإيقاعية الأخرى حيث يقول:
أيها الذاهبون مروا على جسدي
أيها العابرون على جسدي
لن تمروا.
تصبح الذات هي محرق العمل الفني، على حين يخفف الضوء المسلط على الحدث العاكس لأشكال الهيمنة السلطوية في الواقع فالشاعر إذن يحاول أن يحاكم هذا الواقع العربي برؤية شاعرية، و بلغة انزياحيه، لأنه لا يرى في هذا الواقع العربي إلا الخضوع والخضوع، لذا يحاول مرارا أن يخاطب الذاكرة، و الشعور، لتأسيس هذه الأنا الواعية، والحاملة لأوراق الزيتون، تنتظر من يجني ثمارها، ويتلذذ بحلاوتها، هكذا كان ولا يزال شعره عبارة عن بندقية مفتوحة قابلة للاغتيال، وللتمرد، وللتحرر، ومهما يكن فالشاعر محمود درويش غاير المألوف، وخلق قارة شعرية فلسطينية ضمن القارات الإنسانية، فوسع مداركها، و أبدع تاريخها، وذاكرتها، جاعلا من الشعر عبارة عن عقلانية جديدة لا تخاطب الميت بل تخاطب أهل الذكر وأهل المعرفة . فالشاعر في أشعاره استخدم مجموعة من الرموز و الأساطير وبرؤية انزياحي، لأن وجود الآخر المهيمن يؤثر دوما على وجود الأنا، لأن المستعمر يفرغ هذه الأرض، و الذاكرة، و الإنسان من كينونته، و تفقد صورتها، لذا تعتبر أن حركة الشعر المعاصر ظاهرة حضارية ناشئة عن رد فعل الذي يحدث في المجتمعات عقب النكبات الكبرى، فشعر درويش ثمرة جهود متواصلة لجيل من الشعراء الذين شربوا من كأس النكسة، ومن التطبيع أيضا، فقناعة الشاعر المعاصر لا يكتمل إلا بمساءلة السلطة، والدولة، والكون و الأمم المتحدة، و الشعوب المتكلسة.
إذن ما موقع الشعر في النضال السياسي العربي؟ و هل انتهى عصر التاريخ كما يرى فوكو ياما؟ أم آن الأوان لإعادة المياه إلى منبعها الأصلي، و تحية لكل شاعر و أسير. الذي لا زال يكابد المرارة والحزن، و لا يلوك أطياف الذكريات بل يستشرف نحو فلسطين جديدة، لها أصالتها وأناقتها و تاريخها، ينادي بالتحرر من الاستعمار وتجاوز الانحطاط، والجمود وبذلك برزت حركة أدبية موازية تمثلت في إحياء النموذج المواطن حسب درويش في الشعر العربي يحتاج إلى تساؤلات عن مواطن، و الانحطاط الفني، و الحكم على الذوق العربي، فهذه الوقفة هي التي وقفها شعراء الحداثة من حيث الشعر و امداده برجالته، و قوته من حيث اللغة، و الأسلوب، و التصوير، و البناء أي بالعودة لديناميته، و ديباحيته مع مراعاة متطلبات العصر في أبعاده القومية، والوطنية والثقافية مطالبة فإحياء الذات، وتطور الواقع والعصر. لذا أصبحت القصيدة عنده تعبر عن قضايا الواقع الفلسطيني بأساليب في إطار علاقة جدلية (المحافظة والتجديد) يعتبر رائدا من رواد الشعر المعاصر فإليه يرجع الفضل في تلخيص الشعر من الجمود والضعف حيث استفاد من تجربة المنفى، وكذا من الشخصية الوطنية والشعرية، الفلسطينية والعالمية.
وخلاصة القول فدواوين محمود درويش حاورت من الواقع المناطق الأكثر جراحا عبر عدسة ملونة بالغة التأثير في المحتل، فشعره هو ولادة جديدة، و هوية قديمة تندرج ضمن شبكة من العلاقات الفنية و السيمنتيكية، والدلالية، كل هذا هو تحويل العالم الشعري الاعتيادي إلى عالم دلالي و إيقاعي غير اعتيادي كما يقول جون كوهن في كتابة بنية اللغة الشعرية ص-133-.
المراجع المعتمدة:
1- كمال أبو ديب- الحداثة-السلطة-النص-مجلة فصول م4_ سنة1984
2- محمد الجابري الخطاب العربي_ المركز الثقافي العربي_ الدار البيضاء. دار الطليعة_ بيروت ص 9_10.
3- اعتدال عثمان_ إضاءة النص_ الهيئة المصرية العامة_1998 ص97_127
4- جابر عصفور أقنعة الشعر، فصول العدد أقنعة الشعر، فصول العدد 4_1981 ص148.
5- محمود درويش- معين سييسو يجلس على مقعد الغياب_ الكرمل 11-1984ص9.
6- إلياس خوري_ دراسات في نقد الشعر_ دار ابن رشد- بيروت1979 ص 118.
7- ريتا عوض- شؤون فلسطينية العدد رقم 35- سبتمبر- 1973 ص 88.