استعادة غسان كنفاني إبداعيّا ونقديّا
فراس حج محمد| فلسطين
ست وثلاثون سنة هي كل سنوات عمر غسان كنفاني، منها اثنتا عشرة سنة عاشها في فلسطين، وبعدها أخذته الريح إلى لبنان وسوريا، ليستقر في بيروت. في ست وثلاثين سنة، ولد، وتشرّد، ودرس، ودرّس، وسافر، وأحبّ وراسل، ومارس السياسة، واشتغل بالصحافة. نقد، وكتب المقال، والقصة، والرواية، والمسرحية، والبحث والدراسة. ستة وثلاثون عاما كل ما منحته إياه الحياة، إلا أنه ترك الكتب المهمة والمقولات الخالدة، والروايات الملهمة. لم يترك الكثير الكثير، لكنه ترك المؤثر الكبير في هذه الكتب، ربما لم تتجاوز كتبه العشرين كتابا، لكنها شكلت مكتبة ثرية بحد ذاتها للفكر العربي. كتب لن يستطيع دارس للأدب الفلسطيني أو السياسة الفلسطينية تجاوزها أو التغاضي عنها أو إهمال تقديرها.
ست وثلاثون سنة استطاعت أن تجعل من غسان كنفاني علامة إنسانية تتخطّى حادثة الاغتيال إلى ما يتجاوزها ويجعل الفكرة، فكرة الاغتيال، فاشلة، وعديمة الفائدة، فالفكرة لا تموت أبدا، والشخص لم يمت أيضا، فها هو مستعاد حيّ يرزق، نقرأه ونحاوره ونتجادل معه على موائد الفكر والثقافة. فأي اغتيال هذا الذي سيسكت صوتاً كصوت غسان أو يمحي صورة كصورته؟
ست وثلاثون سنة كانت تُغني عن مئات من السنين، فربما عاش أحدنا قرنا ولم يذكره التاريخ أبدا لا من قريب ولا من بعيد. فعُمر غسان الذي لم يكن قصيرا ولن يكون، يعلّمنا أن العمر ليس بالسنوات وعددها، وإنما ماذا فعلت بعمرك هذا الممنوح لك. اغتيل غسان كنفاني شابّا إلا أنّ ذكره ما زال خالدا باقيا شابا، متوهّجا لا يموت. هذا العمر على هذه الشاكلة هو رسالة إنسانية مؤداها أن تعمل وتجدّ من أجل أن تبقى، فحرام أن تذهب فرصة العمر سدى. وصف الكاتب السوري ياسين رفاعية غسان كنفاني في روايته “من يتذكر تاي” أنه كان يسابق الزمن ويعمل كثيرا ولم يكن ينام كثيرا، وكأنه كان يشعر بأن يد الموت ستخطفه، فكان في صراع مع الوقت.
ويشهد على ذلك ما أنتجه فكر غسان ورواياته وحياته التي عاشها من حيوية ونقد واستحضار منذ استشهاده إلى اليوم، ففي الوقت الذي كنت أستعدُّ فيه للكتابة عن غسان كنفاني ومشروعه الإبداعي الروائي القصصي والنقدي أعثر على ثلاثة كتب تحتفي بهذا الإرث، جمعت بعد استشهاده، رحمه الله، وقد تكون غير استقصائية، إلا أنها كتب مهمة في دلالتها الاحتفائية بغسان ومشروعه الفكري، وهذه الكتب هي:
فارس فارس، مجموعة مقالات نقدية ساخرة. نشرت في الأصل أسبوعيا في ملحق جريدة الأنوار اللبنانية ومجلة الصياد، وخصصت له وقفة بعنوان “غسان كنفاني ناقداً”.
الشاهد والشهيد، فصول من سيرته الإعلامية والسياسية، ويشتمل على بعض ما اشتمل عليه كتاب “فارس فارس” من مقالات نقدية ساخرة، ولكنه يضيف إليه بعض اليوميات.
معارج الإبداع، صفحات من سيرة غسان كنفاني ومجموعة من القصص والمقالات والحوارات، والمحاولات الشعرية التي لم تنشر سابقا. كانت هذه المحاولات قصيدتين تحدثت عنهما في مقال خاص بعنوان “غسان كنفاني شاعرا”، وجعلته في كتاب “في حضرة الشعراء” المعدّ للنشر، في الباب الأول منه الذي يناقش قضايا الشعر بشكل عام، وتابعت فيه تأمّل بعض القضايا المتصلة بالشعرية العربية استكمالا لما جاء في كتاب “بلاغة الصنعة الشعرية”؛ إذ لم تؤهّل هاتان القصيدتان غسان ليكون شاعرا، لكنهما يؤشران على البداية الطبيعية لولادة غسان الأديب، أسوة بالعديد من الأدباء الذين بدأوا حياتهم الأدبية بكتابة الشعر، ثم ما لبثوا أن نبتوا نباتا حسنا في تربة السرد.
هذه الكتب الثلاثة المذكورة أعلاه الخاصّة بجمع إرث غسان كنفاني تتقاطع فيما بينها، لكن لا يغني أحدها عما عداه. وحبذا لو تمّ تحريرها لتكون في كتاب واحد، دون تكرار. فهل من دار نشر، صاحبها شجاع يفعل ذلك؟ لتوفر للقارئ والباحث ما هو في الكتب الثلاثة بين دفّتي كتاب واحد، وزيادة البحث في المصادر من صحف ومجلات وإرشيف الشهيد الخاص لدى العائلة والأصدقاء والمعارف عما هو غير منشور إلى الآن؛ وصولا إلى تأسيس “مكتبة غسان كنفاني” لتحتوي كل ما كتب، وكلّ ما كُتب عن غسان كنفاني وإبداعاته. لقد حان الوقت لتأسيس مثل هذه المكتبة، كرد فعل حضاري على كل من اتخذ الدم والعنف لغة في إقصاء الفلسطيني ومحو وجوده وذاكرته.
تجدر الإشارة إلى أن عالم غسان كنفاني الإبداعي ما زال مشعّاً، مستلهما، ولن يكفّ الكتاب عن الكتابة عنه نقدا ومراجعات، فعدا يوسف اليوسف وكتابه “رعشة المأساة”، وهو مقالة موسعة لا تتجاوز ستاً وسبعين صفحة، ورضوى عاشور وكتاب “الطريق إلى الخيمة الأخرى”، وفاروق وادي وعلاماته الثلاث في الرواية الفلسطينية، وفيصل دراج وحديثه عن “ذاكرة المغلوبين- الهزيمة والصهيونية في الخطاب الثقافي الفلسطيني”. أيضاً ثمة كتابات إبداعية استلهمته في الرواية والشعر والدراسات الجامعية، وقد تناول الدارسون كل تلك الجوانب في تتبعهم لغسان كنفاني وأثره في الكتّاب العرب والفلسطينيين على وجه التحديد، والأثر الذي تركه غسان في مدونة السرد الفلسطينية.
لم يكن الاستشهاد أو الاغتيال ما رفع غسان إلى هذه المرتبة من الحضور في السياق الثقافي والفكري بل ما قدّمه من إبداع، هو ما جعله مؤهلا لريادة حقول متعددة في صلب الثقافة الفلسطينية والعربية والإنسانية، فقد اجتمعت في شخصه كل مقومات الإبداع من الكتابة إلى الرسم، ومن السياسة إلى الصحافة، ومن التأليف إلى الترجمة، فغسان يعدّ من أوائل من تنبّهوا إلى ضرورة الترجمة من العبرية وإليها. جاعلا من كل ذلك وسيلة لخدمة قضية مركزية في حياته، فكل ما كان يفعله غسان فعله من أجل فلسطين، وليس لأهداف ذاتية ونخبوية خاصة، وفي هذا السياق، ولمن يعرف دقائق توظيف غسان كل شيء في حياته من أجل القضية السياسية، تبدو رسائله إلى غادة السمان غير مبررة، أو لم يستوعبها الوسط الثقافي آنذاك، علما أن غسان كتبها وهو يمارس حقه كإنسان في أن يحبّ ويعبر عن هذا الحب.
في هذا العام (2020)، عام الحجر الصحي، والإغلاقات المتكررة، انتبهت إلى غسان كنفاني أكثر من ذي قبل، على الرغم من أنني كتبتُ في روايته “صيادون في شارع ضيق” دراسة مطولة ونشرتها في كتابي “ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية”، وها أنا أعود إليه لأكتب قي إبداعاته أكثر؛ أربع مقالات إضافية غير مقالة “غسان كنفاني شاعراً”، تناولت فيها روايته “رجال في الشمس” بمقالين، هذه الرواية التي لا ينتهي الحديث عنها مهما كُتب حولها، فكل مشهد فيها بحاجة إلى دراسة ومن عدة وجوه، وكتاب “أطفال غسان كنفاني والقنديل الصغير”، فتحدثت عن أطفال غسان وقصته الوحيدة التي كتبها للطفلة لميس ابنة اخته، وأهداها إياها في عيد ميلادها، وهي قصة “القنديل الصغير” التي طبعت عدة طبعات. كما تحدثت عن مقالات كتاب “فارس فارس” كما أسلفت الإشارة آنفا.
هذه المقالات أستعيد فيها مشروع كنفاني من زوايا متعددة لها علاقة بالسرد العربي بعامة والفلسطيني بشكل خاص. وها هو بعد ما يقارب من نصف قرن على استشهاده ما زال داخلا في صلب النقاش السياسي والثقافي والإبداعي الفلسطيني، حاضرا رغم الغياب، متنوعا في تجليات هذا الحضور، متعاليا على كل ما هو جانبي وتافه وغير حقيقي أو غير عمليّ، وسيظلّ غسانُ حيا ما دامت السموات والأرض، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.