السعادة المدنية  Civic Happiness

د. ماهر خضر | رئيس منظمة أمم الحكمة

www.wisdomnations.org

تَطَوَّرَ مفهوم السعادة عبر الزمن، وتَلَوَّنَتْ السعادة بالمزاج العام لمختلف المُجتمعات، فمنها ما إرتبط بالدفء العائلي والإستقرار الأسري، ومنها ما إختلط بالمادة ومستوى الرفاه الإجتماعي. وفي كل مُؤشرات السعادة العالمية وعلى رأسها HPI)Happy Planet Index)، تتحَدّدُ السعادة بمُستوى رضا الفرد عن الخدمات العامة ودرجة الرفاه الذي يعيشه.

لكننا اليوم، وفي إطار مشروع الحكمة، نطرح مُستوى آخر من السعادة، وهي السعادة المدنية Civic Happiness، والتي تنبع من الفرد في إتجاه المجتمع، ثم لتعود إليه في شكل سعادة مدنية تُؤَسّس لِمُجْتمع الحكمة.

إن الفرد الحكيم في أبسط مظاهره هو ذلك الإنسان القادر على التَّحَكُّم في ذاته وجسده ومشاعره وعباراته وكل تفاعلاته الباطنة والظاهرة. وكم كُنَّا نَعْجَبُ لمعلمي اليوغا والفنون القتالية Martial arts كيف يتحكمون في حركاتهم وكيف يُحَقّقُون بالتركيز والتأمل ما لا يُحققه السّحرة والعرافون.

لكنالأمر ليس بالسحر ولا بالتهيؤات، وإنما هو بالحكمة والتَّحَكُّمِ. وهي أعلى درجات الوعي بالذات وتحقيق الذات. فَكَيْفَ إِذَا كانت الحكمة أسلوب حياةوعَمّت بروتوكولات الحكمة كل المجالات. هنا تنتهي الصّدامات وتَفْتُر النزاعات، لتحل محلها المحبة والرأفة والفضل. وتنتصب داخل كل فرد مِنّا مَحْكَمٌة دائمةُ الإنعقاد، تنظر وتُقيِّمُ وتحكم بالعدل وإن كان ذا قربى.

هكذا، وفي مجتمع الحكمة تنمو الفضيلة، وتسكن قلوبنا السّكينة رِضًا وإطمئناناً لعدل الآخر وإنصافه، حيث يكون الآخر مرآة الأنا الناصعة، تعكس وعيه ورُشده وحكمته. وحتى وإن شاب هذه المرآة بعض الدّنس، فإن الثقة باقية في حكمة بروتوكولات الحكمة، التي تشد بُنيان مجتمع الحكمة.

ولَعَلَّ الحكمة كمدخل للسعادة المدنية سوف تتأكد أكثر فأكثر في المُجتمعات الإفتراضية الآخذة في التوسع، يُدعمها في ذلك الذكاء الإصطناعي والخواريزميات التي تتطور وتتعلم كلما زادت البيانات المُدخلة، حتى تشارف مُستويات الحكمة.

إن إلتقاءنا وتفاعلنا الإفتراضي سيتضاعف كل يوم، ومعه ستتضاعف حاجتنا للحكمة والتحكم لتحقيق السعادة المدنية وتجنب الكثير من الصدامات الإلكترونية. فعالم الإنترنت تُسيطر عليه الجريمة – Deep Internet – في ظل غياب الحكمة وبروتوكولات الحكمة. وليس من سبيل لتحقيق السعادة الإلكترونية / المرادفة للسعادة المدنية، من دون تغليب صوت الحكمة.

كما أن تحقيق السعادة المدنية سوف يُهيئ المجتمع للإنتقال إلى مرحلة الإبداع والإبتكار، حيث يرتقي الفرد والمجتمع إلى أعلى هرم ماسلو في مرحلة تحقيق الذات Self Actualization، وهي أعلى مراتب الإحساس بقيمة الذات الفردية والمجتمعية ومنها ينبع الرضا المتكامل والسعادة المدنية، في توازن رصين وحكمة رشيدة.

وبهذا الشكل تُصبح السعادة المدنية Civic Happiness هي الوقود والطاقة التي تعيش عليها المدن الحكيمة Wise Cities والتي تمثل أعلى درجات النضج التي يُمكن أن تبلغها المدن الذكية Smart Cities.

لذلك سنناقش في المقالة القادمة مفهوم المدن الحكيمة، وكيفية إندماج التقنية التي تعتمدها المدن الذكية مع الوعي والحكمة المجتمعية للوصول إلى المدن الحكيمة.        

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى