غسان كنفاني شاعرا
فراس حج محمد | فلسطين
لقد جرّب غسّان كنفاني الشّعر، ولكنه لم يصبح شاعرا، يشير هذا الأمر إلى حقيقة مؤداها أن غالبية الأدباء، ومنهم الفلسطينيون قد جربوا كتابة الشّعر، ولكنهم لم يغوصوا فيه، ولم يخلصوا له إلا قلة قليلة منهم، وأدركوا منذ وقت مبكر من عمر الكتابة أنهم لن يكونوا شعراء جيّدين، وعليهم أن يجرّبوا الكتابة في نوع أدبيّ آخر، وكذلك حدث مع كتّاب غربيين، بدأوا شعراء وانتهوا روائيين. تذكّر هذه القضية بالخليل بن أحمد الفراهيدي، العالم بالشّعر وعروضه، وهو الذي وضع أسسه في التفريق بين صحيح الشّعر من مكسوره، ألا يعقل ألا يكون شاعرا؟ بلى إنه يستطيع كتابة الشّعر، موزونا ومقفى، ولكن الشّعر ليس هو هذا فقط (الوزن والقافية)؛ وكما جاء في كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشا للقلقشندي كان الفراهيدي “إذا سئل عن سبب إعراضه عن قول الشّعر يقول: “يأباني جيّده، وآبى رديئه”[1]، إنها الصارمة النقدية، والجدّيّة، والصدق مع الذات، ومع الشّعر، ومع المتلقي، لذلك اختار علم الشّعر، لأنه لا يحسن القريض كما ينبغي، فلا يريد الفراهيدي أن يكون “مجرّد شاعر” أو شاعرا رديئاً.
بناء على ما سبق، هل كان غسّان كنفاني شاعرا؟ إن كل ما نُقل عن غسّان كنفاني من الشّعر قصيدتان، إحداهما غير مكتملة مؤرخة بتاريخ: 13/6/1955، وهي بعنوان “أنا لا أريد”، والأخرى جاءت تحت عنوان “بلا عنوان”، مجهولة التاريخ ومكان الكتابة. يشير تاريخ القصيدة الأولى أن غسّان كنفاني كان في بداياته الأدبية وكان عمره تسعة عشر عاما فقط. إنّه بالمجمل عمر النّشوة العاطفيّة والاندفاع الوجدانيّ اللذين يأخذان المرء أوّلا نحو منطقة الشّعر أو ما يُظنّ أنه شعر. فصار من الطبيعي أن يجرّب المرءُ كل ألوان الكتابة في أول معالجته لهذه الغواية، ليظل مترددا بين الأنواع حتى يجد نفسه في نوع معين، فيلزمه ويُعرف به، هكذا كان كثير من الأدباء، وهذا ما تشير إليه كتب التراجم والمنشورات، فتوفيق الحكيم وطه حسين وإحسان عباس وحسن حميد ووليام فوكنر وبول أوستر، وغيرهم كثيرون عُرفوا أنهم قرضوا الشّعر، ولكنهم لم يعرفوا شعراء، عرفوا نقادا وأدباء ناثرين وروائيين وكتّاب قصّة. بهذه الصورة وفي هذه الحدود على الدارس أن يضع قصيدتي غسّان كنفاني، وإن أراد أن يدرسهما فلا بد من أن يدرسا على أنهما محاولتان لشابّ كان يتلمّس طريق الأدب ويبحث عنها.
جاءت القصيدتان في كتاب “معارج الإبداع- ما لم ينشر من الكتابات الأولى للأديب الشّهيد غسّان كنفاني ما بين 1951-1960″[2]، والكتاب من إعداد عدنان كنفاني، وهو أخو الكاتب غسّان، وتحتل القصيدتان ثماني صفحات من الكتاب من صفحة 191 وحتى صفحة 198، وهما من الشّعر الحرّ، أو ما عرف بشعر التفعيلة.
عندما كتب غسّان الشّعر اتخذ من الشّكل الشّعري الجديد قالبا لمحاولاته، في الوقت الذي لم يكن الشّعر الحرّ قد استقرّ بعدُ أو استقام، ففي تلك الفترة لم يكن قد مرّ على الجدل الشّعري ودعوة نازك الملائكة وأشعار السّيّاب وقت طويل، بضع سنوات ليس إلّا، فقصيدة الكوليرا التي مهّدت بها الملائكة للشّعر الحرّ قيلت عام 1947، وقصائد السّيّاب الحرّة كانت قد ولدت عام 1948. ولم يكن بعدُ قد صدر كتاب نازك الملائكة “قضايا الشّعر المعاصر” الذي نظّرت فيه للشّعر الحرّ، وكان قد صدر في طبعته الأولى عام 1962، لذا لن أبتعد كثيرا في التفسير لأحمّل محاولتي غسّان كنفاني بعدا ثوريًّا ووعيًا تقدميًّا في اختياره للشكل الشّعري الجديد، بل ربما من الإنصاف أن نرى فيها محاولات شعرية حاول فيها أن يقول الشّعر موزونا دون أن يلتزم بالقافية، فالالتزام بالشّعر الكلاسيكي ذي الشّطرين يلزمه دُربة ومعرفة أكثر وموهبة حقيقية فطرية في قول الشّعر، تلك الموهبة التي تجعل الأبيات تخرج من فم الشّاعر واحدا واحدا كأنها “سمكة حمراء تنطّ من أعماق الماء”[3]، كما صورها نزار قباني في كتابته “قصتي مع الشّعر” عن قوله الشّعر لأول مرة. بل إن كل شعراء مدرسة التفعيلة كتبوا القصيدة الكلاسيكية من أول شاعر فيهم حتى آخر شاعر، بل إنهم بدأوا كلاسيكيين ثم انتهوا شعراء قصيدة شعر حرّ، وبعضهم قد تطور إلى أن يصبح شاعرا يكتب قصيدة النثر.
يبدأ غسّان كنفاني قصيدة “أنا لا أريد” بمقدمة حول أطفال المخيم، تقول: (كانوا يلقّحون الأولاد “البنسلين”/ خوفا من المرض/ في وكالة غوث اللاجئين/ لكنهم وجدوا بين الصغار/ من احتقر البنسلين!)[4]، لقد نثر غسّان هذه المقدمة في عدة أسطر، وقد جعلتُ علامة ذلك الشّرطة المائلة (/)، فجاءت في خمسة أسطر. كأنّ ثمة شكلا ما يسطر على غسّان كنفاني وهو يتقصّد كتابة النّصّ الشّعري، وهي علامة من علامات الشّاعر، لعلّ هذا ينبئ عن جانب شعريّ أو بذرة شعريّة كانت تحاول أن تنمو في تراب غسّان الأدبيّ.
انتظم القصيدة الأولى وزن البحر الكامل مع بعض الإخلالات العروضية، معتمدا فيها على الجمل القصيرة التي احتلت كل جملة سطرا شعريا، وتكوّنت من (69) سطرا، وسيطرت عليها القافية بشكل واضح، وتقمّص غسّان كنفاني شخصية أحد (الأولاد) ليقول القصيدة على لسانه، ويتخذ موقفه من البنسلين ومعطي اللقاح. ولم تبتعد القصيدة الثانية عن الأولى في أنها على البحر نفسه، متخذة التقنية نفسها في الكتابة، وتكوّنت من (86) سطرا، تصرّف في جملها أكثر من تصرّفه في الأولى من حيث ترتيب السطور، بحيث احتلت كلمة واحدة سطور كثيرة من القصيدة، وتشير لغة القصيدة وموضوعها واكتمالها أنها قصيدة تالية للقصيدة الأولى في زمن كتابتها، وبدا عليها ملامح شعرية أكثر نضجا من الأولى.
تمتاز القصيدتان بالنفس السردي، هذا النفس الذي سيسيطر على غسّان كنفاني فيما بعد، وينسيه الشّعر كلية، ويحسم الصراع في وقت مبكر بين السارد غسّان والشّاعر غسّان. بل وتشكل القصيدتان قصتين قصيرتين، تحكي الأولى قصة “ولد” لا يريد البنسلين ويحتجّ على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، بألفاظ مباشرة وانفعالية واضحة، فهذه الوكالة لم تقدم شيئا للاجئين وما تعطيه بيد تأخذه منهم باليد الأخرى. لا شك في أن غسّان كنفاني ذا التسعة عشر عاما كان ذا وعي سياسي متقدّم في هذا النص؛ وهو لا يرى في “الأنوروا” منقذا للشعب الفلسطيني مما يعانيه من جوع وتشرّد، وسرقة وطن.
وتتحدث القصيدة الثانية عن فتاة فلسطينية مات أخوها، وانتحر أبوها عندما كان يرى فلسطين من المناطق الحدودية، قصيدة على الرغم من مأساويتها لم يكن فيها موقف سياسي واضح كما هو في القصيدة الأولى، إذ جاءت عاطفية وجدانية ذات نغم حزين خافت، إلا أن كنفاني أنقذها من مأساويتها بهذه النهاية التفاؤلية التي اعتاد عليها شعر المقاومة فيما بعد شعر النكبة حيث لم تغلق القصائد على الألم والندب، بل كان الشّعراء يفتحون آفاق الأمل في قصائدهم، متأثرين بالواقعية الاشتراكية التفاؤليّة، وهذا ما فعله كنفاني في هذه القصيدة، فيختمها بقوله[5]:
في ثغره الدامي
يعلّقُ
بسمة النصر الأكيد
لم يُعرف غسّان كنفاني شاعرا، كما لم يعرف ناقدا أدبيا أو رسّاما أو كاتب أدب أطفال أو مسرحيّا، فكل ما كتبه في هذه المجالات ظلّ هامشيا، ولكنه عُرف ساردا له بصمته في عالم القصة القصيرة الكلاسيكية وعالم الرواية، وخاصة الرواية القصيرة السياسية، الواقعية. تلك الأعمال السردية هي التي حملت القضية الفلسطينية بكل أبجدياتها، وهي التي أهّلت غسّان كنفاني لأن يكون علامة مميزة من علامات الأدب السردي الروائي والقصصي في فلسطين والعالم العربي.
تبقى قصيدتا غسّان من إرثه الأدبيّ الذي لا بد من الاهتمام بجمعه كله، ودراسته، ووضعه في سياقه الصحيح، دون أن نحمّل كتاباته الأولى أي أبعاد أكثر مما تحتمل، فكل الأدباء ذوو بدايات متواضعة، فلا أحد يولد روائيًّا عظيما أو شاعرًا كبيرا، ولكن عليهم مهمة حسم صراع اصطراع الأجناس في هويتهم الإبداعية منذ البداية، وليس كما فعل آخرون، فتاهوا وتخبّطوا بين السرد والشّعر على غير بصيرة وعلى غير هدف.
______________________
الهوامش
[1] الكتاب، الجزء الثاني، المطبعة الأميرية، القاهرة، 1913، ص308.
[2] صدر الكتاب عن دار الأسوار، عكا، 2019.
[3] الأعمال النثرية الكاملة، منشورات نزار قبّاني، بيروت، د.ت، الجزء السابع، ص244.
[4] معارج الإبداع، ص191.
[5] معارج الإبداع، ص198.