عن القدس وذريعة تأجيل الانتخابات بسببها

نهاد أبو غوش | رام الله – فلسطين

يحتدم الجدل هذه الأيام عن احتمالات إرجاء الانتخابات الفلسطينية، أو إلغائها بسبب رفض الإسرائيليين إجراءها في القدس. وتختلط التكهنات بالرغبات والأمنيات، مع المخاوف بأن ثمة من يبحث عن ذريعة لإلغاء الانتخابات ليس إلا، وفي هذه الأجواء المزروعة بالشكوك ترتفع الشعارات: “لا انتخابات من دون القدس” و”القدس خط أحمر” وكأنما هدف إطلاقها هو حسم الجدل لا البحث عن حلول.

لا خلاف على أهمية القدس ومكانتها، سواء تعلق الأمر بالمدينة المقدسة عاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة، أو بانتماء مواطنيها للشعب الفلسطيني، أو بانطباق أحكام القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة على جميع الأراضي المحتلة بعدوان الرابع من حزيران عام 1967، لكن الخلافات كبيرة ومتشعبة بشأن قضية مشاركة المقدسيين في الانتخابات وما يترتب عليها.

وقبل الخوض في التفاصيل لا بد من الإشارة السريعة إلى ثلاثة عناصر متصلة بالموضوع: الأول هو أن اتفاق أوسلو نص على إخراج القدس من ترتيبات المرحلة الانتقالية التي تعتبر انتخابات السلطة الفلسطينية جزءا منها، وتأجلت قضية القدس لمفاوضات الحل النهائي التي لم تات بعد، ولم يقتصر الأمر على الانتخابات فقط بل شمل كل جوانب نشاطات السلطة، وبالتالي كانت مشاركة المقدسيين في الانتخابات بواسطة البريد، ولم تكن هذه مسألة عفوية وتحديدا من قبل الإسرائيليين الذين ينظرون للوجود الفلسطيني في القدس كأمرعارض ومؤقت.

ثانيا تسارع وتيرة تهويد القدس وخاصة بعد اعتراف الرئيس ترامب بالمدينة عاصمة لدولة إسرائيل، وما تلا ذلك من سعار إسرائيلي، وحساسية مفرطة تجاه أي رمز من رموز الوجود الفلسطيني في المدينة وتجاه كل ما يطعن ويشكك في “يهوديتها”، وبالتالي فمن المتوقع أن يلجأ الاحتلال إلى تعطيل أي محاولة لتأكيد الحضور السياسي الفلسطيني باعتباره من عناوين الصراع على السيادة وعلى هوية المدينة ومستقبلها. المسألة الثالثة هي مرور نحو ثلاثة أشهر على المرسوم الرئاسي بإجراء الانتخابات من دون خوض معارك حقيقية لانتزاع حق المقدسيين في الانتخاب داخل مدينتهم، بل إن المسألة ارتبطت بالمشكلات التي رافقت تشكيل القوائم والخشية من نتائج الانتخابات.

من المؤسف أن تنحصر معركة الصراع على مشاركة القدس في الانتخابات بتقديم طلب لسلطات الاحتلال وانتظار جوابها، تماما مثلما يطلب مريض تصريحا يمكنه من وصول مستشفى، أو تاجر يتابع معاملة لتخليص بضاعة له بالميناء، هذه المقاربة ترهن مصير الانتخابات، ومستقبل النظام السياسي الفلسطيني، ومصير القدس كذلك والشعب كله، بيد حكومة عنصرية متطرفة جميعنا يدرك مخططاتها ومواقفها من الفلسطينيين.

ولا يخفى على أحد أن ثمة مواقف ترفض الانتخابات من حيث المبدأ، أو لا تريد لها أن تجري في هذه الظروف، تتستر خلف الشعار القائل بأن لا أنتخابات من دون القدس، وحال هذه الأطراف يذكرنا بالعبارة التاريخية المعروفة عن ” كلام الحق الذي يراد به باطل” حيث يجري التقاط واقعة صحيحة، لكن توظيفها يكون في الاتجاه السلبي، فالوضع الراهن على كل ما فيه من عيوب وثغرات ونواقص، هو أكثر ضمانة لهذه الأطراف ولمصالحها من المستقبل المجهول، وما يمكن أن ينشا عن الانتخابات من إعادة ترتيب واصطفافات ترتبط بالحجوم والأوزان التي أفرزتها الانتخابات.

ومع الأخذ بعين الاعتبار أن مشاركة المقدسيين ترشيحا قد تمت، حيث ان معظم القوائم المتنافسة في الانتخابات خصصت للمقدسيين أماكن بارزة ومتقدمة، مع أن الخشية ما زالت قائمة من لجوء دولة الاحتلال لابتزاز المرشحين والمقدسيين بشكل عام من خلال تهديدهم بسحب الهويات المقدسية، فمن الجدير ملاحظة أن اقصى طموح واقعي يتلخص في مشاركة المقدسيين كما شاركوا في انتخابات الأعوام 1996 و2005 و2006 هو في حد ذاته طموح هابط ومسقوف بالشروط التعسفية الجائرة لاتفاق أوسلو، أما المطالبة بضمان مشاركة المقدسيين بنفس طريقة مشاركة غيرهم من الفلسطينيين في هذه الظروف بالتحديد، (اي ترشيحا وتسجيلا ودعاية وحرية حركة ونشر صناديق في المدارس وإشراف مباشر من قبل لجنة الانتخابات المركزية) ومن دون خوض معارك جدية لانتزاع هذا الحق، فهو باختصار مجرد مزاودة.

من الصعب تعويض قصور القوى والمؤسسات الوطنية على امتداد السنوات الطويلة الماضية، باستفاقة متأخرة وتوقع نتائج استثنائية خلال أسابيع، لكن الصراع على القدس ما زال مفتوحا ومتعدد الأشكال والجبهات والميادين، بدءا من المحافل الدولية ووصولا لكل ميدان، وكل بلدة وقرية وحارة في فلسطين وخاصة في القدس، ويكفي أن نتابع المعارك والمطاردات شبه اليومية في العيسوية والبلدة القديمة وشعفاط وسلوان، يكفي أن نشهد “عرس” استقبال الأسير المحرر مجد بربر في راس العامود، وحفلات استقبال كل الأسرى، أو يقوم المرء بجولة صغيرة من باب العامود وحتى شارع الواد أو سوق خان الزيت، لكي نتأكد من هوية المدينة وانتماء مواطنيها لفلسطين وقضيتها وحتى لقيم النضال والمقاومة المتقدمة. وهكذا فإذا كان الداعون والمطالبون بإلغاء الانتخابات أو تأجيلها بحجة القدس منسجمين مع انفسهم ودعاواهم فليعطوا المسألة حقها، وليمضوا في الشوط إلى نهايته، فإلى جانب الجهود السياسية والدبلوماسية وهي جهود في غاية الأهمية، ليعمل الجميع على إعادة الثقة للمواطن المقدسي، وعلى استثمار الحالة الشعبية في القدس، من خلال الدعوة لفعالية جماهيرية استثنائية في القدس، مظاهرة لعشرة آلاف مواطن مثلا، أو خمسة آلاف، تطالب بالمشاركة العادلة في الانتخابات، وإرسال مندوبيهم وممثليهم ونشر لجان اهلية ومؤسسية للانتخابات في كل حي، وتحويل يوم الثاني والعشرين من أيار المقبل إلى مناسبة لمعركة شاملة في كل شارع وزقاق ومسجد وكنيسة لتأكيد حق المقدسيين في المشاركة في الانتخابات.

أسباب كثيرة تدعونا للتمسك بالانتخابات بوصفها المدخل الأنسب للتغيير وإنهاء الانقسام وتجديد بنى ودماء منظومتنا السياسية، ولعل حالة “القدس” العالقة والمهملة والمهمشة هي من أكبر الأسباب الداعية لإجراء الانتخابات في موعدها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى