أدب

كيف نطق العقل في حكمة المتنبي

بقلم: أ/ سعيد مالك – معلم لغة عربية
ليت شعري ما سر هذه الحظوة الكبيرة التي ينالها المتنبي؟ فعندما يُذكر الشعر العربي، يتصدّر اسم أبي الطيب المتنبي المشهد بوصفه قمة هرم الشعر العربي الأكبر، وأحد أعمدة التراث الأدبي الذي تجاوز حدود زمانه ليصبح أيقونة خالدة في الذاكرة الإنسانية. وإذاكان المتنبي قد(ملأ الدنيا وشغل الناس )بفخره وهجائه وغزله ووصفه، فإنه أبدع أيما إبداع في شعر الحكمة، حيث انصهرت ثقافته العميقة وتجربته الشخصية الثرية في أبيات تحمل من البصيرة والدهشة ما يجعلها صالحة لكل عصر..
المتنبي: شاعر التجربة والحكمة
لم تكن حكم المتنبي صادرة من برج عاجي أو تأملات باردة، بل كانت ثمرة معاناة شخصية وتجارب حياتية متقلبة، بين البلاطات والقصور، وبين السيوف والأسفار. وقد عُرف بحدة ذكائه، وسعة اطلاعه، وثقته التي بلغت حد الزهو بنفسه، حتى قال عن نفسه:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ **فلا تقنعْ بمـا دونَ النجومِ
هنا تتحول الحكمة إلى دعوة للحياة الكبرى، للعلوّ فوق المألوف، ولعدم الرضا بالقليل. وقيل إنه أنشد هذا البيت في طريقه إلى مصر، محاولًا إقناع نفسه أن السعي وراء المجد يستحق عناء السفر الطويل. ولما سأله أحد أصحابه ساخرًا: “أإلى النجوم أم إلى القاهرة؟” ابتسم وقال: “من عرف قدر نفسه عرف أن الأرض لا تكفيه.
من أبرز أبيات حكمه التي صارت على ألسنة الناس:
إذا أنتَ أكرمتَ الكريمَ ملكتَهُ **وإنْ أنتَ أكرمتَ اللئيمَ تمرّدَا
بيت بليغ يجمع خلاصة التجربة الإنسانية في التعامل مع الناس. وقد قاله حين رأى بعض صغار المماليك يتكبرون بعد نيل عطايا الأمراء. والطريف أن كافور الإخشيدي نفسه كان يردده في مجالسه السياسية
ويقول أيضًا في فلسفة العزيمة:
وما نيلُ المطالبِ بالتمنّي **ولكنْ تؤخذُ الدنيا غِلابا
ويروى أن أحد جلسائه مازحه بعد إنشاده هذا البيت قائلاً: “ها أنا أتمنى مالًا فلم يأتني!” فأجابه المتنبي ضاحكًا: “لو جُعلت الدنيا بالتمنّي لكنتُ أنا الآن ملك الملوك!”
وفي معنى مشابه، يقول:
فطَعنَةُ حُرٍّ بساعةِ عِزٍّ **أشهى من العيشِ طولَ الهُمومِ
وفيها يفضّل الموت بعزّة على حياة مديدة بالهموم.
من المواقف الطريفة مع حكمته
لم يكن شعر الحكمة عند المتنبي دائمًا جادًّا صارمًا، بل ارتبط أحيانًا بمواقف طريفة.فعندما أنشد قوله:
ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلِه **وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ
التفت أحد الحاضرين مازحًا: “يا أبا الطيب، لو كنتَ أجهلنا لكنتَ أسعدنا!” فردّ الشاعر ضاحكًا: “إذن ما كنتُ المتنبي!”
وكذلك قال في مواجهة الموت:
إذا لم يكنْ من الموتِ بدٌّ **فمن العجزِ أن تموتَ جبانَا
أنشدها بعد إحدى الوقائع الحربية ليحثّ القادة على الإقدام. فاعترض جندي قائلاً: “لكننا نريد أن نعيش يا أبا الطيب!” فردّ مازحًا: “بل أنتم تريدون أن تموتوا مرتين: مرة بالجبن، ومرة بالسيوف!”
ومن طرائفه أيضًا ما جرى عند قوله:
إذا رأيتَ نيوبَ الليثِ بارزةً **فلا تظنّن أنّ الليثَ يبتسمُ
إذ علّق أحد ظرفاء المجلس قائلاً: “لو كان الليث يبتسم، فهل نبتسم نحن له؟” فضحك المتنبي وقال: “عندها لا يكون ليثًا بل مهرجًا!”
مقارنات مع حكم الآخرين
إذا عقدنا مقارنة بين المتنبي وغيره من الحكماء، نجد أن حكمه تتّسم بالقوة العملية والحضور الإنساني.
زهير بن أبي سلمى – شاعر المعلقات – قدّم حكمة أقرب إلى المسالمة والاعتدال، مثل قوله:
ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ **وإن خالها تخفى على الناس تُعلَمِ
فهي دعوة إلى استقامة السلوك، بينما المتنبي يجعل من الحكمة سيفًا للعلوّ والطموح.
أبو العلاء المعري – الذي جاء بعده – قدّم حكمة ذات طابع فلسفي متشائم، مثل قوله:
تعبٌ كلها الحياةُ فما أعجبُ **إلا من راغبٍ في ازديادِ
بينما نجد المتنبي، رغم ما في شعره من مرارة، أكثر إشراقًا وحضًّا على العمل، لا على الاستسلام.
أما في التراث الإنساني، فإننا نجد أصداء حكمه قريبة من حكم الإغريق، خاصة قول سقراط: “اعرف نفسك.” وبيت المتنبي:
إذا لم يكنْ من الموتِ بدٌّ **فمن العجزِ أن تموتَ جبانَا
يعكس ذات الفلسفة التي ترى في مواجهة القدر بشجاعة صورة من صور الحكمة.
غلبة الحكمة من الذات والفخر
رغم أن فخره بنفسه قد أُخذ عليه، فإن أبيات فخره تحمل حكمة عن قيمة النفس والموهبة، مثل قوله:
أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي **وأسمعتْ كلماتي من به صَمَمُ
فلما عاب عليه ناقد قوله: “ومن يسمعك وهو أصمّ؟” أجابه المتنبي: “كل قلب فيه ذرة من الفهم يسمعني، ولو كان أصمّ الأذن.” وهنا يتحول الفخر إلى فلسفة في قيمة الكلمة.
سرّ خلود حكم المتنبي
السرّ في بقاء حكم المتنبي حيّة على ألسنة الناس يعود إلى عناصر عدّة:
1. اللغة القوية المكثفة: ألفاظه مشحونة بطاقة بلاغية تجعل البيت قابلاً للحفظ والتداول.
2. الواقعية العميقة: حكمه نابعة من تجارب حيّة، لا تنظير بعيد عن الحياة.
3. التوازن بين العقل والعاطفة: فحكمه ليست جافة، بل تأتي مكسوّة بالعاطفة والفخر والحماسة.
ومنه فإن شعر الحكمة عند المتنبي ليس مجرّد نصوص أدبية جميلة، بل هو مدرسة في التفكير والسلوك، يعلّم الإنسان كيف يواجه الحياة بوعي وشجاعة، وكيف يعلو فوق الصغائر، ويجعل من الطموح جناحين للتحليق. وبينما نجد عند غيره من الشعراء حكمة صامتة أو متأملة، نجد عند المتنبي حكمة صاخبة بالحياة، حافلة بالدهشة، كأنها صدى قلبه وعقله معًا. ولعل هذا ما جعل أحد النقاد يقول: “كل حكمة تُروى، تُنسى إلا إذا كان قائلها المتنبي.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى