اللغة الكمزارية بين الماضي والحاضر
شيخة الفجرية | كاتبة عُمانية
على الرغم من أنَّ عُمان بلدًا تنضحُ بـ” ناجخة التيار” من شمالها إلى جنوبها بمقدار3,165 كم-المساحة تزيد وتنقص حسب تعاقب الدول وتوسعاتها عبر التاريخ -، إلا أنها ظلَّتْ عبر الأزمنة هي” السيف الأفيح، والفضاء الضَحْضَحْ، والجَبل الصَرْدح، والرمل الأَصْبَح” كما هي إجابة ذلك العُماني لأبي عمرو بن العلاء حين لقيه في مكة، وسأله أن يصف بلاده، بعد أن سأله:” فأَنَّى لك هذه الفًصاحة؛ فقال له: إنَّا سكَنَّا أرضاً لا نَسْمَعُ فيها ناجخة التَّيار”. و” ناجخة التيار” يقصد بها “صوت الموج”، حسب ما جاء في كتاب “الأمالي”؛ لأبي علي القالي. الشاهد في كل ذلك، أن فصاحة أهل عُمان المشهود لها منذ الجاهلية، لم تمنع نشأت اللغات الأخرى المجاورة للغة العربية_ من حيث المكان والاستعارة اللفظية _ في عُمان، التي تزخرُ بوجود عدة لغاتٍ قديمةٍ جدًا فيها؛ ومنها: اللغة الكمزارية، اللغة الشحرية، اللغة المهرية، اللغة الحرسوسية، اللغة البطحرية، اللغة الهبيوتية، اللغة البلوشية؛ ولغات ولهجات أخرى. ويعلّق الباحث المختصّ في اللغات العمانية الدكتور محمد الشحري قائلًا:” يظنّ البعض أنّ تسليط الضوء على المكونات اللغوية العمانية والغوص في أعماقها، يعد تهديدا للغة العربية الفصحى، جوهر الهوية الوطنية العمانية، أو تقويضًا للمشاعر الوطنية ووحدة الوطن العربي، ولكني أعتبر ذلك إثما، لأن التنوع الثقافي ضمن الوطن الواحد هو مصدر ثراء وغنى للثقافة الوطنية…”، ويوافقه في ذلك الباحث السعودي الدكتور عبدالله الغذامي؛ الذي تحدث عن وجود اللغات غير العربية في الجزيرة العربية قائلًا:” هذه ميزة ثقافيّة عظيمة، أفادت الأمّة جنسا وتاريخا، ولو بقينا على جزيرتنا لكنّا مثل التّاميل أو التّبت، شعبا محصورا ومحاصرا، لولا مزيّة التّمازج الكبرى التي بدأت مع النبي إسماعيل بن إبراهيم- عليهما السلام-، ثمّ تكلّلت مع الدّين الإسلاميّ الذي أهمّ مزيّة فيه هي عالميّته وعدم محليّته”. ويبدو جليًا أن الدكتور الغذامي يستند إلى خلفية تاريخية فيما ذهب إليه بالقول، إذ كان أن تم زواج النبي إسماعيل بن إبراهيم من قبيلة جرهم العربيّة، فكان هذا الزّواج بين من هو غير عربيّ عرقا وبين قبيلة عربية، ولتبيان التفصيل حول ذلك تحدث الغذامي في كتابه “القبيلة والقبائليّة أو هويّات ما بعد الحداثة”؛ قائلًا: ” الذي لم يكن يتكلّم العربيّة صار هو الجذر الأهم في تكوين المعنى العربيّ وتأسيسه على المعاني الكبرى والأزليّة”.
وفي هذه السانحة فإننا سنقتصر الحديث عن اللغات غير العربية في عُمان، على اللغة الكمزارية على وجه الخصوص، واللغة الكمزارية يتحدث بها أهالي قرية صغيرة منعزلة في صحراء صخرية مسافتها تصل إلى مئة كيلومتر، بين البحر والجبال على مضيق هرمز- من أهم الممرات المائية في العالم، حيث يعبر من خلاله ما نسبته 40% من النفط العالمي -، في محافظة مسندم في شمال سلطنة عُمان واسمها “كمزار”، ويسمى أهلها القاطنين فيها بـ” الكمازرة”، وهم عشيرة من عشائر قبيلة الشحوح العمانية، ولا تُشدُّ الرحال إلى هذه القرية – كمزار- إلا عبر رحلة بقارب حديثٍ يستطيع الرسو في شاطئها بعد ساعة، إذا انطلق مسرعًا من “خصب”، وهي المدينة الأقرب لكمزار، أما إذا كانت الانطلاقة في قارب “الداو” الشراعي التقليدي، فلن يصلها قبل ساعتيْن ونصف الساعة. قال عنها ياقوت الحموي (574) في معجم البلدان: إنَّ” كمزار بليدة صغيرة من نواحي عُمان على ساحل بحره في وادٍ بين جبلين شربهم من أعين عذبة جارية “، وسميت بهذا الاسم نسبة لكثرة الزوار وهو المرجح عند بعض الباحثين لما ورده المسعودي في كتابه “مروج الذهب ومعادن الجوهر” بقوله: “كم زار هذا البلد من بشر؟”، وتشير “كم” إلى الكثرة، ليصبح اسمها اسم مركب من ” كم” و “زار”. ثم زارها الرحالة الألماني هيرمان بورخارت الذي عاش في القرن التاسع عشر فوصف قرية ” كمزار” في كتابه “رحلة عبر الخليج العربي” قائلًا: “إنها ضمن جون، أي خليج صغير، عريض محاط بجبال عالية، الأبنية هناك واطئة ومشيدة بالحجارة وأهم الأبنية مسجدان مجللان بالبياض”. وحسب التعداد العام للسكان والمساكن والمنشئات في السلطنة، فإن هذه القرية – كمزار – يقطنها حوالي 3 آلاف وخمسمائة شخص يسكنون على ضفتي واد هابط من قمم الجبال في رأس مسندم. ومنفذهم الوحيد لها هو البحر، منه يدخلون إليها ومنه يغادرونها. وقد اهتم “معهد اللغات والحضارات الشرقية (إنا لكو)” في باريس بأمر اللغة الكمزارية العُمانية، فابتعث الباحث الفرنسي “مكسيم تابت” الذي تحدث لجريدة عُمان موضحًا في ذلك الحوار: أن “اللغة الكمزارية لغة عُمانية تكتب بالحروف العربية وتتكون من 27 حرفا ساكنا إضافة إلى 8 أحرف علة”، واستطرد قائلًا: ” الكمزارية تعد اللغة الوحيدة من نوعها في شبه الجزيرة العربية التي لا تنتمي الى مجموعة اللغات السامية”، والطريف في الأمر أن “هناك لهجة كمزارية تنطق في جزيرة آراك الإيرانية” ولكنها تختلف، حسب الباحث الفرنسي، عن “الكمزارية العمانية”.
ويستطرد الباحث: أن “المصادر الموضوعة عن اللغة الكمزارية قليلة جدا، وأن اطروحة الدكتورة لـ”كريستينا فان دير” الهولندية والمقالات العلمية لـ”اريك أنونبي” الكندي هي المصادر الأساسية لهذا البحث، فهما “متخصصان في علم اللغات والإنسانيات واقترحا قواعد اللغة الكمزارية وقد قضيا مدة سنتين في القرية للتعرف على الكمزارية، أما البحث فاستمر 10 سنوات، وعليه وضعت “كريستينا فان دير” كتابا عن قواعد اللغة الكمزارية”، مؤكدين بأن اللغة الكمزارية تأثرت ببعض اللغات خلال فترات الاحتلال المختلفة للمنطقة كما تأثرت بالعلاقات التجارية فهنالك استعارات لبعض الكلمات مثل الهندية والبلوشية والتركية والكردية والأوردية والانجليزية والبرتغالية وأثار اللغات السامية التي لا تزال تنطق في عمان مثل المهرية والجبالية والحرسوسية. وعن الدراسات التي تؤكد أن اللغة الكمزارية عبارة عن مزيج من اللغات، فإن الباحث مكسيم يقول: أن هنالك كتابا قديما للمؤرخ “براعم طومس” منشور عام 1929 يصف اللغة الكمزارية بشكل بسيط، وأن أول كتاب عالج اللغة الكمزارية هو كتاب “جيكر” من البعثة البريطانية ونشر في عام 1902.
ويمكن ملاحظة تأثير الموانئ على الكمزارية حتى غدت “لغة مينائية”، فالقرية كانت عبر التاريخ القديم والحديث، مكانًا تجاريًا بامتياز، إذ يتوافد التجار والعابرين من كل دول العالم، يقول الباحث “إريك أنونبي” أن: “كمزار كانت مهمة للغاية من الوجهة التاريخية، فقد شكلت إحدى البقاع القليلة، التي يوجد بين جنباتها بئر يحتوي على مياه عذبة بكميات كبيرة، في المنطقة الواقعة بين مراكز تجارية مثل البصرة ومسقط وزنجبار والهند وما ورائها”. وتشاركه الباحثة “كريستينا فان دير” القول عن المكان وأهله: “أعتقد أنهم مضيافون للغاية، لأنهم كانوا على مر التاريخ، يستقبلون ويوفرون الرعاية بانتظام للبحارة الناجين من السفن التي تتحطم في مضيق هرمز، ويخفون كذلك السفن الفارة من القراصنة في الخلجان البحرية الصغيرة الموجودة في المنطقة، أو يساعدون السفن المارة على إعادة التزود بالمياه العذبة، بفضل مياه البئر الموجود في القرية”.
وعن اجتماع لغات الموانئ يمكن ملاحظتها في النبذة البسيطة جدًا الآتية من الكلمات المستعملة في اللغة الكمزارية على لسان سكان كمزار:
1ـ الأغذية: (خاير: بطيخ أصفر/ بادم: لوز/ ليمو ترش: الليمون الحامض/بيش: غصن).
2ـ أجزاء الجسم:( رو: وجه، وهي كلمة فارسية/ رأس: سر، كلمة هندية(سنسكريتية) وفارسية وأوردية/ شم: عين/ چردن: رقبة /صندوخ: جبهة/ چوش: أذن، كلمة فارسية/ نخرت: أنف/ خاركامر: عمود فقري وكمر أيضًا كلمة هندية وتعني الظهر/ كاره: فم/ دل: قلب، فارسية وهندية/ لحم: چوشت فارسية: گوشت)
3ـ الألوان:( رنچ (كلمة عُمانية المفرد رنق وجمعها أرناق): لون وهي فارسية أيضًا: رنگ/ سپير: أبيض لفظ فارسي/ سيا: أسود، لفظ فارسي: سیاه/ سرخ: أحمر/ أصفر: ظرد، لفظ فارسي: زرد).
4ـ الأوقات: (روظو: هذا اليوم/ دوشن: البارحة/ آروظو: أول أمس/ نواظ: غدًا/ روظ إيوش: بعد غد/ شو: ليلة/ نواشمي: هذه الليلة/ دوش نواشم: ليلة أمس).
5ـ أيام الأسبوع:(سبت: السبت /حد الأحد/ دوشمبر الاثنين/ سوشمبر الثلاثاء/ شاشمبر الأربعاء/ بنشمبر الخميس/ جمات الجمعة).
6ـ أفراد الأسرة والأقارب:( بپ: أب/ مام: أم/ پس: ابن/ دت: ابنة/ خوي: أخت/ برى: أخ/ آمو: عم/ خالو: خال/ ظن: زوجه/ شو: زوج/ دامر: عريس، صهر/ بيوي: عروس (في الهندية بيوي تعني زوجة) /خانمة: أسرة/ إيهل: الأهل والاقارب/ رور: طفل/ پيرو: جد/ مام ظن: أم الزوجة/ بب ظن: أبو الزوجة).
وعليه أقام النادي الثقافي محاضرة بعنوان “اللغة الكمزارية بين الماضي والحاضر”، سكبت فيها ابنة اللغة والمكان، أ. مكية بنت حسن الكمزارية كم من المعلومات عن اللغة والفرق بينها واللهجة التي تعيش يومياتها بتفاصيلها الدقيقة، فقالت: “قال علماؤنا: اللهجة هي منوعة بفعل اللسان، وهي تمثل فرعا … اللهجة هي شكل من أشكال الأصل (اللغة) التي ينتمي إليها، وجزء من طرائق لغة واحدة”، وأكدت مكية أن “الكمزارية لغة وذلك بالعودة إلى تعريفات علماء اللغة”، كما نوهت بالمؤثرات التي تأثرت بها اللغة الكمزارية، وأضافت: “اللغة تتأثر بالكتابة وهذا ما يسهل على دارسها وجود مرجعياتها”.
وعن حاضر اللغة الكمزارية أجابت مكية الكمزارية في محاضرتها قائلة: ” هناك قنوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى دورات مبسطة لتعلم اللغة الكمزارية، ويتواجد لدينا فريق ناضج لغويا لتوصيل اللغة لمن أراد التعرف عليها”؛ كل ذلك والكمزارية ما تزال على ألسنة الكمزاريين مع اللغة العربية جنبًا إلى جنب.