تنازل (قصة قصيرة)

‏شوقية عروق منصور | فلسطين

وجدت نفسها زوجة لزوج شقيقتها.. والدها اختصر طريق الحزن وأخذ يرمم بقايا بيت شقيقتها الذي انهار بموتها، أمها أكدت لها أن والدها هو صاحب الحل والربط والقرار، وعليها الطاعة والقبول.
حين وجد الوالد الغرفة قد امتلأت بالوجوه التي جاءت لكي تعزيه بوفاة ابنته وقف وحضن زوج ابنته وقال:
– كنت من أحسن الأزواج، علشان هيك وحتى تبقى الرابطة بيننا، قررت أن أعطيك بنتي الثانية ..!!
أسقط بيد الزوج الذي لم يستطع الرفض أمام الرجال فمن العار أن يرفض.. !!
لم تتوقع مشاعرها أن تدخل في غابة الأخت الراحلة، وأن تصنع من أغصان أشجار العلاقة التي كانت محرمة تاجاً تلبسه أمام الجميع، أن تتمدد فوق سرير كان سابقاً قلعة غامضة وأبواب موصدة.
انتقلت من بيت أهلها إلى بيت أختها الميتة بهدوء، سيارة سوداء جاءت في منتصف الليل، حملت ثيابها وبعض الأشياء الضرورية، اختفى الفرح عن الوجوه التي وقفت تودعها، تغلغل في الوجوم بريق الذنب العابر، الذي رفض تصديق الحكاية التي بدأت بفرحة و”طرحة” وانتهت بزواج مبتور ، فوق صفحة تحتوي إعادة نظر للقدر، بعد أن أراد قطع الصلة.
لم تسمع صدى موسيقى تعزف لها، كانت الدموع تنساب على الخدود بصمت، لم يحاول أحد أفراد عائلتها تقليص المسافات والتقرب منها، وسؤالها عن رضاها وقبولها، تعامل معها والدها كأنها لا شيء، مجرد بضاعة تنقل من هنا إلى هناك .
عاشت حياتها وهي ترفع راية القبول وطأطأة الرأس، لم تعترض يوماً، حتى إن أمها تمدحها بقولها ” تم بدون لسان” “الله يرضى عليها إحنا بنفصل هي بتلبس” عاشت العمر داخل برميل الخضوع، تتنفس جدران الرضى دون تذمر.. رأت شقيقاتها وهن يذهبن إلى المدارس ويتعلمن في الجامعات، وعندما طلبوا منها البقاء في البيت لأن والدها لا يملك المال لتعليم ثلاث بنات في الجامعة، بقيت في البيت تساعد أمها في عمل البيت، حتى عندما تزوجن بقيت ترعى أولادهن.
لم تطلب يوماً شيئاً لها، بينما شقيقاتها يصرخن ويشتمن ويحصلن على كل شيء، وأخوتها الذكور يحصلون بدون صراخ أيضاً على كل شيء، هي تكتفي بكلام أمها عنها هي الهادئة المؤدبة الحنونة  هي أم البيت …!!
كانت تعرف إنهم يحرثون في أرض الاستغلال، يستغلونها علناً، رغم ذلك بقيت مطيعة وتتنازل، ولم تحاول قطع الحبال التي طوقت عنقها.
زوج أختها حاجز من الفولاذ، من الصعب اختراق أحاسيسه الباردة، لم تستطع التحرر من روح أختها التي سكنت كل قطع الأثاث وهواء البيت، تربعت فوق اللمسات ورائحة الزوج الذي يقترب منها، كانت تشم رائحة عطره سابقاً، لكن لم تشعر يوماً بأن هذه الرائحة ستعشش في أنفها، وترحل في أعماقها، لتصنع منها وجعاً مدججاً بالحيرة والتردد.
إنها تتصرف كضيفة لا تمت للبيت بصلة، أختها غائبة وسترجع، لم تبح لأحد عن مشاعرها، وزوج شقيقتها ما زال زوجاً لأختها، هي مجرد جسر ستخطو عليه أختها عندما تعود، ولم يحاول أحد سؤالها عن مشاعرها.
جاء والدها لزيارتها، تذكرت أن والدها يزورها فقط في الأعياد، اليوم لا يوجد عيد، رحبت به، بعد فترة صمت:
– بكرة لازم تيجي معي لعمل فحوصات … !!
اعتقدت أنه حريص على صحتها ويريد الإطمئنان عليها، أو فكره مشغول لأنها لم تحمل حتى الآن..!! قال لها والدها بصوت منخفض:
– أنت بتعرفي انو اخوك عنده فشل كلوي، ولم يعد غسيل الكلى ينفع، لازم يزرع كلية، واخترناك حتى تتبرعي بالكلية.
لم تقل “لا” طأطأت رأسها، توجهت إلى المستشفى وأجرت جميع الفحوصات اللازمة.
بعد عدة أيام كانت النتيجة مطابقة لخلايا وأنسجة ودم أخيها.
وقعت على جميع الأوراق المطلوبة للتبرع، ووالدها يقف فوق رأسها ، يبارك تنازلها عن كليتها ..!!
بينما هي مستلقية على السرير الأبيض، مستسلمة لأيدي الجراحين والمقصات والسكاكين، سألها أحدهم:
– هل أنت موافقة على اعطاء كليتك؟
– والدي طلب وأنا لا أرفض له طلبا ..!
زوجها أعلن رفضه للتبرع، تشاجر مع والدها وقال :
– إذا تبرعت زوجتي بكليتها لن ترجع إلى بيتي، أنا بدي زوجة صحيحة الجسم، ما بدي زوجتي الثانية تموت .
والدها قال بأعلى صوته ” بلاش ترجع ، البيت اللي رباها بعدو مفتوح ” .
تبرعت بكليتها، لم ترجع لبيتها، لأن زوجها لا يريد زوجة ناقصة “قطعة” حسب ما قال وهو يتوعد ويهدد بالطلاق .
تطلقت … رجعت إلى البيت عاد الأخوة والأخوات وأولادهم إلى البيت يرفلون بالحرية والرعاية، وعادت تعتني بكل واحد، وكلما نظرت إلى الخط البني الذي يشق جسدها، تشق روحها وتشعر أنهم بنزع كليتها نزعوا الكثير من صمتها.
لم تعد أمها ترى بعينها اليمنى، وقد أعلن الطبيب لأبيها أنها بحاجة إلى قرنية، وعليها الانتظار لعل هناك من يتبرع لها بقرنيته بعد وفاته .
بينما هم يجلسون أمام شاشة التلفزيون يتابعون أحد المسلسلات وصراخ الأطفال الذين جاءوا برفقة آبائهم وأمهاتهم للاطمئنان على صحة الأم تختلط بحديث الكبار ، الذين أرادوا عرض عضلات محبتهم للأم ، ردد الأب ما قاله الطبيب عن القرنية وقضية التبرع .
شعرت أن العيون تخترق عيونها، أنهم ينظرون إليها، يحدقون في تجويفات عينيها، يبحرون في البياض الذي تحول إلى مصعد، يصعدون به إلى رضى الأم، ينتظرون منها الآن التنازل عن قرنيتها  لكن طريق تنازلاتها المنحدرة وصلت لصخرة القرار والفرار .
قال لها والدها:
– كل واحدة من خواتك لها عائلة، وأخوتك لهم عائلات، أنت الوحيدة ما إلها حدا .
لم يسمعوا ردها، بل شاهدوا حمم البراكين وهي تتساقط من صراخها … بقيت تصرخ حتى هذه اللحظة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى