حول رسائل كنفاني وأنسي إلى غادة السمان

فراس حج محمد | فلسطين المحتلة

يا ليت لي حظّ هذا الرجل!

“يا ليت لي امرأة تحبني كما أحبت غادة السمان غسان كنفاني”، هذه أمنية مكتومة في نفوس كثير من الرجال الذين يعادون غادة السمان، ويقفون ضدها ويشوهونها ويجرمونها. وفي نفوس نساء كثيرات يكاد خوفهن يأكلهنّ ويحولهنّ إلى كائنات شبحيّة.

لقد تمنيت كثيرا أن تكتب عني المرأة التي أحبها كما كتبت وتكتب غادة السمان عن غسان كنفاني، كم أتمنى شخصيا أن تبادر تلك المرأة وأن تنشر رسائلي لها، تلك الرسائل التي اشتهيتها فيها، وأخبرتها عن أحلامي بها، وماذا فعلنا في تلك الليالي المجنونة، لنفعل ما لم نستطع فعله على أرض الواقع. وأن تنشر كذلك رسائلها لي وقصائدنا “الأيروتيكية” الخاصة.

يا ليتها تكون شُجاعة شَجاعة غادة السمان وتنشر عني وعن رغبتي المحمومة فيها، وكيف أنها تثير شهيتي في حضورها وفي غيابها، يا ليتها تنشر مثلما نشرت غادة ما قاله أنسي لغادة، متمنيا التهامها كامرأة ناضجة، تضج بالشهوة، وقوة الأيروس، فأنا أكابد ما كابده أنسي الحاج في رسالته الخامسة عندما كتب لغادة قائلا: “أشعر بحاجة لا توصف، لا يصدقها العقل، إليكِ. أشعر بجوع إلى صدرك. بنهم إلى وجهك ويديكِ ودفئك وفمك وعنقك، إلى عينيك. بنَهَم إليك. أشعر بجوع وحشي إلى أخذك. إلى احتضانك واعتصارك وإعطائك كل ما فيّ من حاجة إلى أخذ الرعشة الإلهية وإعطائها. كياني كله تحفز إليك. إنك تُخيّلين على أفكاري وتلتهمينني”. ولذلك تمثلت بهذا المقطع وأعدت نشره على صفحتي على الفيسبوك، ليكون الرد أن غادة السمان مجرمة في نظر الكاتب المقدسي إبراهيم جوهر، على اعتبار أن “الجريمة في المصطلح المقصود: هي المتاجرة بالعواطف واستغلال إيقاعها برجال بعد إغرائهم قولا وكتابة وربما حركة! ثم الاعتلاء على رسائلهم لمزيد من الشّهرة وإشباع الغرور النّرجسي. أجرمت بحق “غسان كنفاني” ثم “أنسي الحاج”…ولا أدري ماذا يخبّئ جارورها من “جرائم”.

إن لغادة السمان جسما شهوانيا أنثويا ما زال إلى الآن يثير الرجال، فما بالك من عشقوها وراسلوها وعرفوها عن قرب، وكان بينهم وبينها جلسات ومحادثات ونكات وصخب وسهر، عدا ما تتمتع به غادة السمان من جاذبية أنثوية وكيمياء إلهية تجعل كل من يراها يتمناها ويريدها، وأنا شخصيا لا أستبعد أن من تمنوا غادة من الوسط الثقافي والفني وراسلوها أكثر مما يحصون عددا، وأنّ “جارورها” ما زال فيه الكثير من الحب وليس “الجرائم”، لما تتمتع به من شراسة أنثوية طاغية تحرك الحجر، وأن هذه الشهوة لم تخفت على الرغم من تقدم العمر، فما زالت امرأة متوقدة جنونية جبارة.

ربما لم تكن غادة وحدها من لها هذه المواصفات، المرأة التي أكاتبها، وكتبت لها سبعين رسالة أو يزيد، لها تلك المواصفات من الطغيان الأنثوي، حتى ليخيل إليّ أنها هي غادة السمان أحيانا، تثير شهيتي في حضورها وفي غيابها، صوتها يأسرني، قوامها، كلها. إن تهيل في نفسي ذبذبات لا قدر لي بردها أو مقاومتها. لكنها تتمتع بجبن كبير، ولم تكن مثل غادة. ولعلها لن تكون مثلها إذا سبقتُها وجرعت كأس الموت. ربما تخلصت مني ومن ذاكرتي ، وطوت الصفحة إلى غير رجعة. ربما، لست أدري.

لقد أحبت غادة السمان غسان كنفاني، وهذا واضح في كتابتها المستمرة عنه، في ذكرى ميلاده، وليس في ذكرى استشهاده، إذ تريد أن تؤكد حياته وليس موته. غادة لم تكن “مجرمة” كما وصفها الكاتب إبراهيم جوهر عندما نشرت رسائل غسان كنفاني أو رسائل أنسي الحاج أو ما ستنشره في المستقبل، ولا شك في أن عندها من رسائل عشاقها الكثير الكثير أدباء وفنانين وربما سياسيين كذلك. والذنب ليس ذنبها بأي حال من الأحوال، وليس ذنب من حاول أن يتقرب منها وكان له معها قصة ولو في خياله. إنها الجاذبية التي لا تقاوم، إضافة إلى أنها امرأة مثقفة وأنيقة وكاتبة ومشهورة، وليست بحاجة إلى أكتاف غير قلمها لتصعد عليها وتقول للقراء ها أنا غادة السمان.

لقد أدت غادة السمان واجبا كبيرا لهؤلاء الأشخاص الذين أحبوها وكتبوا لها رسائل، لذلك ليس عبثا أن تعنون المقدمة الثانية في الطبعة ذاتها لرسائل غسان “وفاء لعهد قطعناه”، إذ تقول في واحدة من الفقرات “والوفاء ليس لعاطفتي الغابرة المتجددة أبدا نحوه، بل وفاء لرجل مبدع”. إنها حفظت قدر غسان كاتبا ومبدعا وثوريا، بالقدر الذي حفظته له “عاشقا”.

لقد بالغت غادة في الاهتمام بإخراج رسائل غسان على أتم وجه، فهي من حرّر الكتاب الذي ضم 12 رسالة، وجعلت من صورتها المشتركة معه غلافا للرسائل، كما أنها كتبت مقدمتين لهما الأهمية الكبرى ثقافيا وأدبيا ووجدانيا. الكتّاب في العادة يكتبون مقدمة واحدة، وغادة كتبت مقدمتين لكتاب واحد، وليس هذا وحسب، بل إنها قبل أن تصل للرسالة الأولى وضعت مجموعة من النصوص المحيطة، أولا “محاولة إهداء”، بالإضافة إلى المقدمتين التي أطلقت على كل منهما “محاولة”، ثم تثبت ثلاثة أبيات لعمر أبو ريشة ذات دلالة كبيرة وتحمل رسالة واضحة في الاهتمام بغسان وأدب غسان وحب غسان، واختارت أحد أشطر تلك الأبيات ليكون عنوانا، وهو عنوان ذو دلالة قوية: “انشريها، لا تتركيني أموتُ”:

عند كوبي المكسور، حزمة أوراقٍ

          وعمر في دفتيها شَمِيتُ.

احمليها، ماضي شبابك فيها

          والفتون الذي عليه شَقِيتُ

اقرئيها لا تحجبي الخلد عني

          انشريها لا تتركيني أموتُ

ولا داعي لشرح هذه الأبيات، فهي واضحة في دلالتها وإدراجها في سياق كتاب خاص بالرسائل، ولم تكن تبرر بها الفعل الذي قامته به من نشرها للرسائل، بل كانت تبين أهمية هذا الفعل لغسان كنفاني نفسه، ولماضي شبابها المختزن في تلك الرسائل.

ولم تكتف غادة السمان بإيراد أبيات عمر أبو ريشة، بل أردفتها في الصفحة التي تليها بأبيات تنسبها للشاعرة الأندلسية ولادة بنت المستكفي، وإن نسبت الأبيات أيضا في المصادر الأدبية لابن زيدون محبوب الشاعرة ولادة:

ودَّعَ الصَبرَ مُحِبٌّ وَدَّعَك

          ذائِعٌ مِن سِرِّهِ ما اِستَودَعَك

يا أَخا البَدرِ سَناءً وَسَناً

          حَفِظَ اللَهُ زَماناً أَطلَعَك

إِن يَطُل بَعدَكَ لَيلي فَلَكَم

          بِتُّ أَشكو قِصَرَ اللَيلِ مَعَك

هل أخطأت غادة في نسبة الأبيات؟ أغلب الظن أنها وجدت في الأبيات وفي نسبتها إلى ولادة قناعا ظريفا شفيفا، لتقول من خلاله ما تردّ فيه بحب على رسائل غسان كنفاني.

لقد اهتمت غادة السمان برسائل غسان كنفاني كثيرا، ومنحتها عناية خاصة، فاهتمت بكثير من التفاصيل، وجعلت للرسائل عناوين أو إشارات أو ما إلى ذلك، بينما تكتفي برسائل أنسي الحاج بكتابة “محاولة إهداء” ثم مقدمة قصيرة تطلق عليها “لحظة نوستالجيا وحنين”، فيها شيء من التبرؤ من علاقتها الوجدانية مع أنسي، فقد بدأت بالقول “لم أكتب لأنسي الحاج أي رسالة”. وتحاول أن تفسر ذلك بأنها كانت تراه يوميا. لم تفعل ذلك مع غسان كنفاني، بل كانت تراه ربما أيضا يوميا، وكان الوسط الثقافي يعرف بالعلاقة التي بين غسان وغادة، وقد صرّح بذلك الكاتب ياسين رفاعية في روايته “من يتذكر تاي”. فقد حضر كنفاني في الرواية بوصفه أحد الشخوص، وتحدث عنه الرفاق وعن عشقه لغادة وكيف أنه كان متعبا من هذا الحب. بل كانت امرأة متعبة له إلى الحد الذي كان يطفو على سطح العلاقات مع أصدقائه في المقهى الذي كان يتردد عليه في بيروت.

لا أظن أن امرأة حافظت على عهد وفائها مع غسان كنفاني، وتحن في لحظة نوستالجيا إلى أنسي الحاج، وتحرص على تقديم ما كتبوه للقراء هي امراة “مجرمة”، بل كانت امرأة لا يجود الزمان بمثلها، ويا ليت لنا مثلها، أو يا ليت أن محبوباتنا يتعاملن معنا بعد الموت كما تعاملت غادة مع غسان ومع أنسي بعد رحيلهما. يا ليت لي أنا شخصيا حظ هذا الرجل، غسان كنفاني تحديداً، فأفوز فوزا كبيراً بعد الموت بما لم أفز به وأنا حيّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى