لطيفة الحاج في “نواقيس العزلة” بين فانتازيا الحدث وفانتازيا الثقافة (4 –4)

أ.د. يوسف حطّيني | أكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات

وفي التفاتة غير مألوفة تشير لطيفة الحاج إلى أنّ العادات السائدة ليست موروثة بالضرورة، لأن المجتمع كان في الماضي أكثر انفتاحاً بشأن العلاقة بين الجنسين: “لا زالت الصورة بالأبيض والأسود لأحد الكتاتيب في الخمسينات، وفتيات يجلسن مع الفتيان مع مسافة تفصل بينهم، عالقة في ذاكرتي. سألت والدتي مشيرة إلى الصورة في المجلة. قالت: النفوس في السابق ليست كما هي الآن”، ص16.

وترصد الروائية بعنايةٍ شغفَ الطفلة بالاطلاع على ما تخفيه النساء اللائي “يخفضن أصواتهن عن الصغيرات حين يتحدثن عن أزواجهن، وعن تفاصيلهنّ الحميمة، ومنهن فطوم أم على التي كانت تزور بيت مريم/ الساردة في طفولتها، وقد قادها هذا الشغف إلى تتبع تلك التفاصيل، ببراءة الطفلة، في روايات عبير: “فهمتُ كل تلك التفاصيل التي كانت تخفيها، وعرفتُ المشاهد التي تحول بيني وبين رؤيتها من روايات عبير التي كانت محظورة في منزلنا وكل منازل الفريج”، ص19.

وأشارت الكاتبة إشارات غير مباشرة إلى غلاء المهور، وإلى تكاليف الأعراس، ص63، كما انتقدت التبذير على لسان ماكس بطل رواية “بطون جائعة..”، ص147، واستهجنت بعض العادات القبلية التي ما زالت سائدة عند بعض الشخصيات من رواسب المجتمع القديم:

“ما بالي قد تحولت فجأة لسلامة بطي، زميلتنا في العمل؟ أبي وأبي ونحن أبناء العز، لا نتزوج من خارج قبيلتنا، نحن ذوو الدماء الصافية، عروقنا لا تختلط بعروق أخرى، كيف وافق والدك على زواجكما؟”، ص75.

كما اهتمت الروائية برصد الصورة الذكورية للمجتمع، ليس من خلال شخصية أبيها فقط، بل من خلال صور أخرى، من مثل زوج “فطوم” السكّير الذي احتملته دهراً، ثم طردها من بيته، وأبيها الذي استقبلها صارخاً: “هذا البيت لا تدخلينه إلا برفقة زوجك، لا نريد أن نراك عندنا، فالمرأة ليس لها سوى بيت زوجها”، ص20، ومن مثل “بشاير” التي افتقدت دفء زوجها الغيور واهتمامه، فتحدثت مع أحد الشبان في أنستغرام: “زميلتنا بشاير، أمسك بها زوجها الغيور جداً، وهي تحدّث أحد الشبان في إنستجرام وطلقها”، ص29.

وفي إطار الاهتمام بالسائد الاجتماعي كانت لغة السرد حاملة كذلك للخرافات التي تكتنف الوعي الشعبي، حتى عند تلك الشخصيات التي تدّعي عدم إيمانها بها، ولنا أن نذكر هنا أن والدة مريم تطلب منها أن تبتعد عن اللائي يؤمنًّ بالخرافات، غير أنها في سياق آخر تستسلم لسطوتها؛ حيث يمكن أن يظهر ذلك من خلال السياقين التاليين:

  • “تقول البنت: إنها تخاف من الأماكن التي يخزنون فيها التمر؛ لأن سويدة خصف تعيش فيها. من هيسويدة خصف(1)؟ أتساءل. في المنزل حين أسأل أمي تضحك. تقول: من هذه البنت؟ لا تجالسي من يستمتعن برواية الخرافات”، ص42.
  • “كانت أمي تقول: إن بكاء الطفل يعني أنّ خنفساء سوداء جاءته وقالت: إن والده مات. وحين يبتسم تأتي إليه فراشة زرقاء، وتقول: إنّ أمه قادمة لإرضاعه، عبودي لا يبتسم وهو نائم أبداً. لا بد أنّ الخنفساء السوداء تزوره كثيراً”، ص9.

كما توظّف لطيفة الأسطورة المحلية، حين تكشف، على لسان الساردة، نفاق المجتمع الذكوري، حين يقرن جمال الأنثى بالشر، من خلال معالجة أسطورة أم دويس(2) التي تتمثل للرجل بهيئة امرأة جميلة، فتغويه، وحين تنفرد به تفصل رأسه عن جسده بلمح البصر، ثم تنتقد الساردةُ الأسطورةَ لأن هناك رجالاً يغوون النساء، وهم جديرون بحمل لقب (أبو دويس!!). تقول الساردة: “المرأة المسكينة، الغانية المتبرجة التي لا عمل لها سوى إغواء الرجال. لقد كان حريا بمؤلفي الأساطير أن يصنعوا قصصاً على الرجال الذين يغوون النساء ويصيدونهن باسم الحب والاهتمام.

ولا تنسى الكاتبة أن تلتفت إلى الأغنية الشعبية، وتجعلها جزءاً من السياق الروائي، ما يعزّز دور الرواية في الحفاظ على التراث، ومن ذلك ما نشهده في الافتتاح السردي الذي يتجسّد أغنية شعبية تردّدها الساردة لطفلها، وهي تهزّ منزَّهُ:

“حبيتك حبّ المال والأهل والغنى

وحب الضنى ما حال دونه دون

وحب يدعي الملح والسكّر

ويدعي عويدات الثّمام قرون”، ص9.

ويمكن أن نرصد استخدامات أخرى للأغنية الشعبية في مواقف حكائية متعددة، ومنها الأغنيتان الشعبيتان الواردتان في السياقين التاليين:

  • “أراقب حركة صدره، نعم إنه يتنفس، تحرّك مصدراً أصواتاً مكتومة، وجدتني أغني له:

والمفتاح عند الحداد

والحداد يبغي فلوس

والفلوس عند العروس”، ص75.

  • “أريد منه ابناً، أريد عبودي.

والعروس  تبغي عيال

والعيال يبغون حليب

والحليب عند البقر”، ص101.

أمّا فيما يتعلّق بالإيقاع السردي، فيمكن أن نشير إلى إيقاعين بارزين، هما إيقاع التناص الذي يعدّ الإيقاع الأبهى والأكثر بروزاً في بنية الرواية، وإيقاع الموضوع الذي يكاد يتمحور حول فكرتي الإجهاض، والغيرة.

يتولّد إيقاع التناص من التكرار الناتج من اندماج سياقين استعاريين أو لفظيين، أحدهما موجود في النص والآخر مستحضَر من الذاكرة الثقافية، وقد سبقت الإشارة إلى الإحالات التناصية الحبكوية التي أقامتها الكاتبة مع “أحدب نوتردام”، و”المسخ”، وغيرها، وهي ذات أثر إيقاعي بارز، غير أننا يمكن أن نشير هنا إلى إحالات غير حبكوية، تعيد إلى ذاكرة القارئ الثقافية ملفوظات وسياقات معرفية محددة، من مثل الإحالات التالية:

  • “وتذكرت مقولة برنارد شو(3)”سامحه، فهو يعتقد أن عادات قبيلته هي قوانين الطبيعة”، ص75.
  • “أوجه تحياتي لجون غراي(4) على كتابه (الرجال من المريخ والنساء من الزهرة)، فقد ساعد البشرية على الاعتراف بـ ولن أقول اكتشاف الاختلافات بين الرجل والمرأة”، ص ص 26ـ27.
  • “لقد تمرّدت دجاجة إبساك(5) على واقعها وأبت إلا أن ترسمه مثلما أرادت هي. لم تكن راضية عن واقعها وتوقعاتها لمستقبلها بناء على ذلك الواقع؛ فهربت إلى البرية؛ لتفقس بيضها كما تريد”، ص156.

ويمكن أن نلاحظ أن الإجهاض هو أكثر الثيمات بروزاً، وهذا أمر طبيعي، غير أن الأمر لم يقتصر على السياقات اللفظية التي لم تغادر فضاء الرواية الطباعي كثيراً، بل برز أيضاً في سياقات غرائبية سريالية، من مثل السياق التالي الذي يضعنا أمام صورة لفظية تشبه لوحة من لوحات سلفادور دالي: “يمدّ يده نحو بطني تخرج من يديه عناكب سوداء”، ص35. وهذه العناكب تشير إلى سوداوية الخواء الذي يعبّر عن حالة المرأة بعد الإجهاض؛ لذلك من الطبيعي أن نقرأ سياقات من مثل: “وضعت يدي أسفل بطني وبكيت، تذكّرت أجنّتي المفقودة”، ص100. وكيف لا يكون الأمر كذلك ما دامت “كل زوجة تبقى ناقصة ما لم تنجب”، ص105، وما دامت الأم التي تعرّضت للإجهاض تنقل التجربة المريرة إلى ابنتها: “نحن يا ابنتي مثل الشجرة.. ولادتك لطفل مكتمل تشبه اكتمال الثمار، وسقوطها من نفسها، أما الإجهاض فهو يشبه قطف تلك الثمار عنوة قبل اكتمالها. لقد قُطفتُ مرتين”، ص94.

لقد صورت الساردة، ومن ورائها الكاتبة، آثار الإجهاض، ومعاناته الجسدية والنفسية، ليس فقط عليها، بل على من حولها أيضاً، فقد زادت انقباضات بطنها، وتجددت، وحملها زوجها إلى المستشفى مثل المجنون حتى يعرفا “أن الجنين ميت منذ ثلاثة أيام” ص90، بعد أن داعب حلم الطفولة (الحياة شبه المكتملة) خيالهما مرتين: “الطفل الذي سقط كان شبه مكتمل التكوين”، ص30. ولم يكن أثر الإجهاض على راشد أقل ألماً، إذ صار بعد الإجهاض الثاني “شخصاً آخر، كأنه هو الذي أجهض طفلاً، وغُسلت أحشاؤه”، ص29.

وثمّة إيقاع ثيميٌ آخر، جاء نتيجة اضطراب الساردة وقلقها، هو إيقاع الغيرة،  فالساردة تغار من كلّ النساء حول الكاتب، تغار من القارئات المعجبات، ومن الشخصيات الروائية النسائية، بل من الروايات ذاتها، ففي إطار غيرته من المعجبات تشير الساردة إلى استشاطتها غضباً بمجرّد التفكير فيهنّ، وإلى شعورها “بالرغبة في دهسهنّ بشاحنة كبيرة”، ص46، وهي تصّرح أنّها لن ترافق زوجها إلى حفلات توقيعه، لا بسبب وقاحة بعض المعجبات فحسب، بل بسبب لطف معاملة زوجها لهنّ أيضاً: “لن أرافقه مرة أخرى إلى حفلات توقيعه؛ لأني لا أطيق رؤية المزيد من المنشطرات والمتسولات، وأنه السبب في جرأة ووقحة بعضهن؛ لأنه لا يضع لهنّ حداً، ويعاملهن بلطف شديد”، ص67.

أما الغيرة من الشخصيات الروائية النسائية فيمكن أن تظهر من خلال سخط الساردة، بسبب وصف زوجها امرأة جميلة في أي من رواياته. تقول الساردة: “ممتعضة أتخيله يكتب وصفاً لإحدى جميلات رواياته، أولئك اللاتي يصفهن بكلمات خلابة، أتساءل: لما لم أسمع منه هذه الكلمات”، ص39.

وهي تبدو أرقة لأنه “ليس كل الشعراء شعراء عند زوجاتهم”، ص77، فهي تحقد، في لا وعيها، على رواياته، راجية أن تحبسه، وتعذبه، وتجعله “يكره اليوم الذي قرر فيه كتابة الروايات”، ص46؛ لأنّها تريد أن تحتلّ مكان الصدارة في قلبه وفي اهتماماته، وأن تكون روايتَه المعشوقة في الحياة وفي الأدب:

  • “ذهب رجائي أدراج الرياح، (رجائي) تلك هي روايته الثانية. ضممت كفيّ وأنا أدعو بأن أصير يوماً رجاءه”، ص49.
  • “أريده أن يكتب رواية لي، لي وحدي، لا تشاركني قراءتها أية واحدة”، ص ص64ـ 65.

هكذا بدت لنا مريم السّاردة، في رواية “نواقيس العزلة ـ تبّاً للروايات”، صفحة من صفحات السرد الشهرزادي: تفتح خزانة شهرزاد من الداخل، وتهزّ بجذع شجرة السرد؛ لتسّاقط علينا أحلاماً وكوابيس وأحداثاً غرائبية، في حين يظلّ شهريار المسكين أسير قلقها واضطرابها، حتى تعود إلى ساحة الوعي، بعد ثلاثة أيام من غيابها، فيطلع من دموع أحبائها الصباح، وتصمت لطيفة الحاج عن الكلام المباح.

الهوامش:

  • يتكوّن اسم “سويدة خصف” من مقطعين: سويدة (تصغير سودة)، وتعني نواة التمر، وأما الخصف فهو سعف النخل، ويشير الاسم إلى حالة التمر التي يظهر عليها عند حفظه في حقيبة من الخوص المغسول، وامتدت دلالته؛ ليشير إلى التمر المخزّن عموماً. ومعروف أنّ التمر المخزّن في خصافة يحشر حشراً، ويُضغط فيختلط التمر بالنوى، وتظهر النوى مثل عيون كثيرة متناثرة. وتوجد “سودة خصف”، وفق الخيال الشعبي الإماراتي، في مخازن التمور ومحلات بيعها، وفي البيوت التي يحفظ فيها التمر؛ فإذا جاء من يسرق التمر (أو يقترب منه كاطفال البيوت)، خرجت له سويدة حصف؛ لذلك كان الأهل يخوّفون بها أطفالهم حفاظاً على التمر الذي كان من أساسيات المعيشة.
  • أم دويس جنية مشهورة في الخيال الشعبي الإماراتي، وتظهر للرجال في هيئة امرأة جميلة ذات شعر طويل، ورائحة طيبة، وتلبس الذهب من رأسها حتى أسفل قدميها، فإذا لحقها الرجل إلى مكان منعزل، لينال هدفه منها، ظهرت على صورتها القبيحة، وحزّت رأسه.
  • برنارد شو (1856ـ 1950م): مؤلف مسرحي إيرلندي شهير، امتاز بأسلوبه الساخر. من مسرحياته: “بيوت الأرامل” و”السلاح والرجل”.
  • جون غراي: مؤلف أمريكي ولد عم 1951م، من أشهر كتابه “الرجال من المريخ، النساء من لزهرة”.
  • الدجاجة إبساك: هي الشخصية الرئيسية في رواية “الدجاجة” التي حلمت بالطيران، للكاتبة الكورية صن مي هوانغ التي ولدت عام 1963، وهذه الرواية من أشهر روايات الأدب الشعبي الكوري، وتحكي عن دجاجة تهرب إلى البريّة؛ لتعيش حريتها، غير أنها تنتهي نهاية فاجعة. تشبه الرواية إلى حد بعيد قصة “البنفسجة الطموح” لجبران خليل جبران.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى