صناديق التعصّب
أحمد نسيم برقاوي| أكاديمي فلسطيني
تشهد الحياة الثقافية بعامة، وعلى امتداد العصور، ظاهرة الترديد والإبداع، والتعصب للقديم، واستحسان التجديد والجديد. ولهذا فإن الصراع بين التعصب والانفتاح، والترديد والتجديد، وأنصار هذا وذاك، قديم ولا ينتهى ولن ينتهي.
القراء والناس عموماً يجدون في كل مبحث معرفي في الفلسفة والأدب والعلوم الإنسانية والفن، خطباء لا شغل لهم سوى ترديد ما قال هذا المفكر أو ذاك، وما كتب هذا الفيلسوف أو ذاك، وما ألف هذا الناقد أو ذاك، وما أتى على ذكره عالم الاجتماع هذا أو ذاك، وهكذا.
والخطباء الصندوقيون هؤلاء يقفون بالمرصاد أمام كل قول جديد شكّل انزياحاً عن مألوفهم من القول. فهؤلاء الخطباء لا ينتجون خطاباً، بل يرددون قول الخطيب دون أن يجهدوا أنفسهم بحظ من التفكير ولو كان قليلاً.
ليس هذا فحسب، بل يتحلق حولهم مجموعة من القرّاء يجعلون من الخطب مدخلاً وحيداً للقراءة، ويذمون كل قراءة تختلف معهم ولها مدخل تختلف عن مدخلهم. وهنا تكمن الطامة الكبرى.
فإذا كان الخطيب نفسه صندوقاً، فما بالك بتلميذ الصندوق، وموقف تلميذ الصندوق من النص الجديد. وغالباً ما يكون تلامذة الصناديق أكثر عنفاً من الصناديق أنفسهم. وهذا أمر قابل للفهم ولكن ليس للتبرير. فأنت إذا تجاوزت مرجع الصندوق في هذا المبحث المعرفي أو ذاك، وأظهرت هشاشة وعي الصندوق، فما الذي يتبقى من تلميذ الصندوق؟
فيما الكائن المبدع المجدد كائن مجنح، له أجنحة النسر، وغاية النحلة، يطير باحثاً عن شجرة، عن واحة، عن نبع، عن قمة، عن شمس، وحين يحط، يعيد كل ذلك إلينا إبداعاً لا غرار له، فكرة تغري العقل، وقصيدة تغني الوجدان، أثراً لا يصيبه البِلى.
الكائن الصندوق كائن مغلق، ليس مهماً ما يختزن، إن كان تحفاً قديمةً أو لباساً بأزياء جميلة، مجوهرات حقيقية أو مجوهرات زائفة، حكماً موروثة أو قيلاً لغواً، نصوصاً دنيوية أو نصوصاً لاهوتية. صحيح بأنه يعرض مخزونه الذي جمعه من هنا وهناك، لكنه يحتفظ بروح الصندوق.
ولهذا فالمبدع يفكر، الصندوق يستظهر، المبدع يسأل، الصندوق يمتثل، المبدع يصنع، الصندوق يجمع، المبدع يحاور، الصندوق يشاجر ويشتم. المبدع ينوّر والصندوق يُعتم.
وهناك فرق كذلك بين الإنسانوي من جهة، والمتعصب من جهة أخرى.
الإنسانوي عقل مجنح، المتعصب كائن يزحف. الإنسانوي يفكر، المتعصب لا. الإنسانوي سلاحه المنطق، المتعصب يخضع ويقرر ويقتل.
لا يحسبن أحد بأن التعصب صفة أخلاقية خاصة بالتيارات الأصولية العنفية والأيديولوجية الدينية فقط، وإنما التعصب بنية أخلاقية عدوانية تجاه الآخر المختلف. علماني عدمي تجاه الدين يكتب بك وإليك جمل المديح التي تخجل من قراءتها، ما إن تختلف معه في رأي أو موقف، حتى يتحول المديح إلى هجاء وقح. التعصب ذهنية أخلاقية مدمرة للتعايش وللفردية الحرة والمتحررة.
التعصب دين مستقل بذاته عن جميع الأديان. هو دين قائم بذاته مهما كان القناع الأيديولوجي له، القومية، الدين، العلمانية، الطائفية، العنصرية.
التعصب دين المجرمين،عبدة القوة الهمجية، الذين لا يجيدون إلا فنون القتل، أسرى الجهل المقدس – لاهوت الظلام.
الثقافة الشعبية لا تعرف التعصب الديني أو التعصب القومي أو التعصب الايديولوجي، التعصب بكل أشكاله وصياغاته الزائفة ثمرة أوهام مثقفين، وتعميم التعصب بوصفه ثقافة أيديولوجية واحدة من أكبر جرائم المرضى من المثقفين. والتحرر من التعصب أياً كانت أشكاله لا يتحقق عن طريق الخطاب فقط، بل عن طريق الممارسة لتحقيق الحد الأدنى، على الأقل، من دولة المواطنة. والإتيان على أي مركزية باستثناء مركزية الإنسان الحر. أعرف أن ذلك يحتاج إلى زمن طويل، وشروط تاريخية غير متوافرة الآن، لكن لا بد من الاستمرار بالدعوة إلى ولادة الإنسان الحر وثقافة الاختلاف. نعم المواطن أولاً، والمواطن أولاً، فالتسامح إذاً أولاً.