نمط من البشر!!

د. مصطفي رجب  – جامعة سوهاج

البشر أنماط متنوعة، ونماذج متفاوتة ، وهذه الأنماط  على تنوعها وتفاوتها ، تتقافز في حياتنا بصورة رتيبة ، سريعة ، عابرة، لا نلتفت إليها، ولا نتأمل سلوكياتها، ولا نكلف أنفسنا عناء التعمق في عاداتها وأساليبها .

ولعل أهم أسباب تجاهلنا مرور هذه الأنماط البشرية ، وعدم تعمقنا في سلوكياتها ودوافع تلك السلوكيات، أنها تمر مرورا عابراً ، سريعاً ، لا يكاد يترك لنا فرصة للتأمل والتفكير .

غير أن هناك نمطاً معيناً يمكن له أن يخترق اعتزالنا هذا الدائم ، ويعكر سكوننا هذا المقيم ، ويجبرنا إجباراً على التأمل والتفكير فيما يأتي وما يدع ، والتعمق فيما يقول وفيما يفعل . وهذا النمط الذي أقصده، نراه يومياً علي شاشات الفضائيات يتنقل في سرعة البعوض ورشاقة الخفاش من هنا إلى هناك ، مرة يعظ الناس فيأمرهم بما يراه هو معروفا ، وينهاهم عما يراه هو منكراً . ولا أحد يسأله بأي مقياس يقيس ما يراه منكراً ؟

ومرة تراه على شاشة أخرى يدافع عن سادته دفاع الجندي المتخم بإيجاد قادته ، المتقمص شخصية من شخصيات سادته ، المتحمس حد الموت دفاعاً عما يُساقطونه عليه من فُتات . ومرة ثالثة تراه على شاشة أخرى يفسر أحلام العذارى، ويستقبل أنَّات الأرامل ، ويتوجع لشكايات اللواتي يخفن من أزواجهن نشوزاً أو إعراضاً أو هجراناً .

ولو تأملت ما يختلج في نفسه وما يرين علي جلد وجهه من تجاوب مع تلك الأحلام والأنات والشكايات لرأيت العجب العُجاب .

ومرة رابعة تراه على شاشة أخرى يخوض في سير عظماء رحلوا عن دنيانا فيتنقص هذا ويسب ذاك وربما أصطنع لنفسه أدواراً يخيل إليه أنه أداها. ويريد للناس أن يتقبلوا منه هذا التخيل علي أنه حقيقة .

وعلي شاشة خامسة تراه يتقمص شخصية زعيم ثائر فائر قاد الشعب بخطبه الحماسية في ثورات 1919 ، 1952 ، 2011 وهاجم الإنجليز والملوك والإقطاع والرأسماليين والعسكر المستبدين والمتشددين والدينيين والليبراليين والمفسدين …. فهو في كل العصور ناقم ، وعلى العهود ثائر فائر بلا هوادة ، لم يُخلق إلا لقيادة الجماهير وتوجيهها .

وأكثر ما يشدك إلي هذا النمط من البشر هو قدرته الفائقة على أداء حركتين متضادتين بقفزة واحدة . وقدرته على أن يضحك بإحدي عينيه ويبكي بالأخري بطريقة مؤثرة في ثانية واحدة وقد منحته هاتان القدرتان هالة من الرهبة وشيئاً من القداسة في قلوب العوام .

وأكثر ما يجذبك للاستماع إلى هذا النمط من البشر هو هذا الألق المبهر الذي يتأرجح في عينيه , وتضطرب له شفتاه ، ويرقص له أنفه ، وتهتز له أطراف أصابعه مشيراً بها هنا وهناك حيث يكذب ، فيصور لك الحق باطلاً ، والباطل حقاً ويستميت في دفاعه عن الباطل بكذبات متتالية قاطعة صارمة متسارعة يأخذ بعضها برقاب بعض .

وهو حين يكذب لا يخجل ولا يظهر عليه ما يظهر على الناس حين يكذبون من توتر واضطراب، بل هو يكذب سعيداً ، متحمساً ، راضياً عن نفسه كل الرضا مقتنعاً بما يقول مل الاقتناع ، ولعلك إن شققت عن قلبه ستجد فيه من المرارة والكآبة والندم أضعاف ما تتخيل ، لأنه فى النهاية : نمط … من البشر !!!

 والطبيعى أن البشر – مهما تختلف أنماطهم ، ومهما تتنوع نماذجهم – يتألمون عندما يكذبون ، ويتألمون عندما يغشون ، ويتألمون عندما يخدعون الناس ، فإن كذبوا وغشوا وخدعوا ولم يتألموا ، فمن الصعب أن نتقبلهم على أنهم بشر ، بل لعل الصواب أن نرى فيهم آية من آيات الله، وصورة من صور قدرته سبحانه على خلق أنماط من الحيوانات الخسيسة فى صورة إنسية بشرية !! .

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى